Sunday, February 11, 2007

القانون بداخل القانون Canon within the Canon

تفترض هذه النظرية أن الإنجيل وهو كإعلان فداء الله في المسيح هو المقياس للكتاب المقدس. وهذا يعني أننا ينبغي أن ننظر فيما وراء الألفاظ لكي نجد البناء الأعمق الذي تدور حوله الرسالة الأصلية وهو رسالة العلاقة بين الله والإنسان والتي بادر الله ببنائها من خلال المسيح وهذا هو الإنجيل. إذاً فالرسالة الجوهرية للكتاب المقدس هي أن الله بكل حرية ونعمة، تصرف بالنيابة عن الجنس البشري (كان الله في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم) يجب إذاً فهم الكتاب المقدس على أنه أولاً حدث ثم إعلان وأخيراً كتابة.

لم يؤمن لوثر مثلاً أن كل الكتاب هو إنجيل ورأى أن الكتب المقدس تتفاوت فيما بينها بقدر ما فيها من "إنجيل" وعلى هذا الأساس قام بعمل تصنيف للعهد الجديد بحسب مدى وضوح تقديم كتبه للإنجيل في ثلاث فئات:

1) المستوى الأول و يتكون من أسفار تقدم الإنجيل بوضوح وبذلك تقدم المقياس للباقين وهي رسائل بولس وإنجيل يوحنا.

2) المستوى الثاني هو الأناجيل المتفقة وسفر الأعمال وبطرس الأولى والثانية.

3) أما المستوى الأدنى فهو رسالة يعقوب ويهوذا وسفر العبرانيين والرؤيا.

إلا أن لوثر لم يُسقِط أي من أسفار الكتاب ولا حتى الأبوكريفا التي أسقطها إقرار الإيمان الوستمنستري بل اعترف أن بعض الكتابات عندما قرأها أدرك أنها هي بالذات هي ما كان يحتاجه وقت الاضطراب و ا لتجربة. إذاً فإن نظرية القانون داخل القانون لا ترى أن القانونية هي في الوحي بقدر ما هي في وجود الإنجيل.

الاعتراضات على فكرة القانون بداخل القانون

1) يخشى الكاثوليك أن هذه الفكرة قد تحط من قدر بعض الأسفار وتعلي من قدر أسفار أخرى وبالطبع هذا الاعتراض هام جداً ويعلمنا أننا في استخدامنا لهذه الفكرة لا يجب أن نتبع منهجاً اختزالياً به نعتبر بعض النصوص إنجيلاًُ وغيرها ليس كذلك. أي أن استخدام هذه النظرية لا يجب أن يشجعنا أن نتعامل مع الكتاب مستخدمين "مقصاً" لنقص ما هو إنجيل من الكتاب وإنما نتعامل معه مستخدمين "عدسة مكبرة" تحاول أن ترى الإنجيل فيما وراء الكلمات والأحداث. نحتاج لأن نفتح قلوبنا لكي نميز الروح الخاصة للإنجيل في الكتاب المقدس.

2) المجموعة الثانية التي قد تعترض على هذه النظرية هي مجموعة البروتستانت المحافظون والأصوليون الذين يتمسكون بعقيدة الوحي المتساوي لكل كلمات الكتاب المقدس، ويرفضون فكرة أن الروح القدس قد يوحي بأمور عميقة في مرات وأمور سطحية في مرات أخرى. هناك نقطتي ضعف لعقيدة الوحي المتساوي هذه:

أولاً: ليس هناك ضمان لقدرتنا على قياس أي جزء من الكتاب لكي نحدد إذا كانت درجة الوحي متساوية أم لا ففكرة الوحي داخل الوحي لا تمر على الكتاب المقدس بعداد جيجر مثلاً لتكشف مدى وحي أي فقرة عن الأخرى وتقرر أنها متساوية أو مختلفة، ولكنها تتعامل مع الكتاب المقدس باعتبار أنه في مجمله وفي كل أجزاءه هو "مهد الإنجيل" كما قال لوثر. وتعبير مهد هذا مهم جداً، فكما أننا لا نساوي بين الطفل والمهد فالطفل بالطبع أهم جداً من المهد، إلا أننا لا نجرؤ على إلقاء المهد في النهر لأنه هو الذي يحمل الطفل، ونحن لا نستطيع أن نفصل الطفل عن المهد. على سبيل المثال إذا نظرنا إلى لوحة جدارية هائلة ككل سوف نرى فيها صورة كلية جميلة ولكن هل نرى هذه ا لصورة فغي كل جزء صغير منها؟ بالطبع لا. ولكن هل يبرر هذا أن ننتزع منها الأجزاء التي لا نراها جميلة بالقدر الكافي؟ لو فعلنا هذا لتشوهت الصورة وضاع جمالها. علينا أن نبقي على كل الأجزاء موقنين أن جمال الصورة ليس في الأجزاء وإنما في الكل. بالنسبة للكتاب المقدس، الصورة الكلية هي الإنجيل. هي خطة الله لفداء الإنسان التي يحصل عليها بمعونة الروح القدس ونحن ننظر للكتاب ككل أنه كلمة الله لأنه هو الذي يقدم لنا الإنجيل.

ثانياً: نقطة الضعف الثانية هي المنطق الخاطيء الذي يعتبر أن صفة الكل يجب أن تنطبق على كل جزء. فعندما نصف عمارة شاهقة مكونة من عدد كبير من الشقق أنها عمارة "كبيرة" هل نستطيع أن نطلق نفس الصفة على كل "شقة" فيها؟

الخطأ الذي في فكرة الوحي المتساوي يحدث عندما ننطلق في نقاشنا من فرضية أننا عندما نقول أن الكتاب المقدس ككل هو كلمة الله فهذا يعني بالضرورة أن كل كلمة فيه هي كلمة الله بنفس القوة التي نطلق بها هذه الصفة على الكل (ونقصد بالكل الكتاب كله مع كل الحياة التي فيها بعمل الروح القدس).

فكرة القانون داخل القانون تقول أنه من الممكن اعتبار أن الكتاب المقدس ككل هو كلمة الله بدون إعطاء سلطة متساوية لكل كلمة فيه ولا لكلمات أكثر من كلمات وإنما إعطاء السلطة للإنجيل (أي الرسالة المحورية) التي فيه والتي تعبر عنها كل الكلمات في مجموعها دون أن تكون كل كلمة معبرة عنها بنفس الدرجة.

فكرة القانون داخل القانون تذكرنا أن كثير مما في الكتاب المقدس يتداخل مع أدبيات أخرى ويقدم أحياناً خلفيات تاريخية أو غيرها من السياقات لرسالة الفداء الأساسية.

3) الاعتراض الثالث يأتي من البروتستانتية المتحررة، ففي كتاب " البحث عن المسيح التاريخي" الذي صدر في نهاية القرن 19 وسيمينار يسوع في نهاية القرن العشرين والذي يقول أن القانون ليس في داخل القانون وإنما فيما وراء القانون. Not Canon within Canon but Canon beyond Canon هم بذلك يعتبرون أن القانون سابق على الكتاب وكامن في يسوع التاريخي الذي كان موجوداً قبل أن يُكتَب الكتاب، وهم يريدون أن يبحثوا عن يسوع مجرداً مما أضفاه عليه كاتبوا الكتاب المقدس من أفكارهم اللاهوتية. وفي وجهة نظرهم يسوع التاريخي هذا هو القانون. المشكلة في تلك النظرة هي أننا لا نستطيع الحصول على يسوع التاريخي هذا فكل ما كتب كان شهادة تاريخية عن يسوع بالإضافة إلى المعنى اللاهوتي لهذه الشهادة التاريخية، لذلك فإن أي محاولة لتجريد يسوع من الإطار اللاهوتي والعقائدي المحيط به سوف تنتهي بأن يضع هؤلاء المفكرون إطاراً عقائدياً من عندهم فتكون النتيجة أنهم يصنعون يسوعاً شبيهاً بهم وليس هو أيضاً يسوع التاريخي! فإن كانوا يتهمون كتاب العهد الجديد أنهم صنعوا يسوعاً من وحي أحلامهم اللاهوتية الأخروية، فهم أيضاً يصنعون يسوعاً آخراً من وحي أحلامهم المادّية العقلانية المعادية لكل ما هو فوق طبيعي. إنهم يصنعون يسوعاً علمانياً شبيهاً بهم.

الإنجيل و الكتاب المقدس

الإنجيل هو المقياس الجوهريMaterial Norm أما الكتاب المقدس فهو المقياس الشكلي Formal norm

ليس الكتاب المقدس"منزلاً" من السماء وإنما هو تسجيل لشهادة حية عن فعل الله في التاريخ. هذا التسجيل تم بعناية خاصة من الله وهذه العناية الخاصة تسمى الوحي. نفس الروح القدس الذي اعتنى بعملية تسجيل الحدث هو الذي يعمل أيضاً في قلوبنا ويجعلنا نستقبلها ككلمة مباشرة من الله لنا.

الإعلان والإيمان والاستنارة

اللاهوت التقليدي القبل حداثي يفترض أن الله يعلن عن نفسه، عندما يصدق الإنسان هذا الإعلان فإن هذا يخلق الإيمان فيه. أما اللاهوت الحداثي (الأرثوذكسية الجديدة) فيعتبر أن الإيمان القلبي ضروري لفهم الإعلان، أي أننا يجب أن ننظر لما هو مسجل في الكتاب المقدس بعين الإيمان لكي نفهمه. بمعنى أن نفرض عليه تفسيراً دينياً من عندنا. أي أن عمل الإعلان يكون في قلب القارئ أيضاً. إيمان ما بعد الحداثة هو إيمان وعي متكامل وهو لذلك يقبل الفكرتين، لكننا يجب أن نفرق بين أمرين: منطق الإيمان من ناحية، وتاريخ وخبرة الإيمان من ناحية أخرى. منطق الإيمان يقول أن الإعلان يأتي أولاً ثم الإيمان به، لكن تاريخ وخبرة الإيمان يقول أن الإعلان لم يحدث في يوم من الأيام في بيئة خالية من الإيمان. معرفة الله، أو وجود إله، هي معرفة موجودة بالفعل في كل عصر من العصور. ثم يأتي القرار بالالتزام وتسليم الحياة للمسيح فيفتح القلب والذهن إلى مزيد من الفهم والإيمان.

الإيمان له ثلاث أبعاد: أولاً التصديق ثم الثقة ثم الاتحاد بالمسيح.

أولاً الإيمان هو تصديق أن بعض الأمور حقيقية، وهو يتضمن اقتناع عقلي بأمور معروفة. لأن الإيمان هو استجابة لخبر الإنجيل فهو يفترض حد أدنى من المعرفة بالحقائق التاريخية لهذا الإنجيل وحياة يسوع ومعناها بالنسبة لهم. هذا ينتج عنه اعتراف بالإيمان. صاغت الكنيسة إيمانها واعترافها بصورة لاهوتية من خلال قوانين الإيمان.

ثانياً: الإيمان لا يمكن أن يختزل إلى تصديق عقلي فقط، فالإيمان له بعد أكثر حيوية وديناميكية هو الثقة. أن نثق بالله للدرجة التي فيها نسلم له حياتنا ومستقبلنا. هنا الإيمان يأخذ طابع وجودي شخصي يحتوي الإنسان كله بإرادته ومشاعره وليس بعقله فقط. هنا تصبح المعرفة ليست فقط عقلية وإنما شخصية. الفقرة 20 من قانون إيمان أوسبرج تقول: “ الإيمان ليس فقط الإيقان بصدق الحقائق التاريخية وإنما الثقة في الله أن يتمم وعوده." وهي الوعود بالغفران والخليقة الجديدة والحياة الأبدية.

الثقة هنا تطرح الخوف إلى ا لخارج وتجعل الإنسان يقبل الحياة الحاضرة والآخرة بأمان واطمئنان أن الله معه. هذه الثقة تعبر عن نفسها عملياً من خلال الطاعة اليومية العملية، من خلال أعمال المحبة للآخرين والخدمة المضحية. ثم يكمل قانون إيمان أوسبرج: " عندما يعطى الله الروح القدس من خلال الإيمان، يتحرك القلب للقيام بالأعمال الصالحة."

عندما يضع الإنسان ثقته في الله، يعود ويسأل نفسه مرة أخرى سؤال الحقيقة، لأن أحداً لا يريد أن يثق بأمر غير صحيح. هنا تظهر الطبيعة الدورية للإيمان. عندما تزداد الثقة، نعود ونتساءل: " هل إيماننا صحيحاً؟" لا توجد إجابة مطلقة لهذا السؤال، لأن الجزء الأكبر من إيماننا في المستقبل، إذن هو وعد ننتظر الله ليتممه. هذا يفتح الإيمان دائماً لصراع الشك. وليس الشك دليلاً على ضعف الثقة بل على قوتها.

ثالثاً: ما يميز الإيمان المسيحي، هو أنه لا يقف فقط عند التصديق والثقة، وإنما هناك اتحاد فائق للزمان والمكان بين المؤمن والمسيح. يقول جون كالفن: "المسيح لا يوجد خارجنا"، " المسيح يسكن فينا." لقد أخذنا عطية الروح القدس بالإيمان، وهذا يضفي طبيعة سرية mystical على الإيمان تربطنا بالمسيح المصلوب متجاوزة التصديق والثقة والشك. يظل الشك موجوداً لأن ليس لدينا خبرة مباشرة بالمسيح ولم تتحقق الوعود الأبدية بعد، لكن ما يجعل إيماننا وثقتنا ينموان هو أن لنا خبرة روحية سرية بالمسيح، فإن كانت أعيننا لم تر المواعيد بعد ولكننا نصدقها ليس كخطوة عمياء في الظلام ولكن لأن الروح يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. بالرغم من أننا عقلياً ومنطقياً قد نشك في ذلك، لكننا روحياً نثق به لأننا نختبره روحياً. عندما نصلي، نرى الله بعيون روحية، هذا يهدئ شكوكنا العقلية ويعطينا الثقة لأن نقترب إليه ونطيعه ونتواصل مع روحياً فيزداد عمق هذه الشهادة الروحية، بحيث تتوه وسطها الشكوك العقلية المنطقية، ونستطيع أن نتغلب على تساؤلاتنا ونثق في أن الوعود وإن لم نرها بعد هي صادقة ـ " ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد." إذن هي دائرة متصلة من الاستنارة التي تؤدي للإيمان الذي يؤدي بدوره لمزيد من الاستنارة، لا يوجد تسلسل واحد للدخول في هذه الدائرة يسير فيه كل الناس، فكل واحد خبرته مختلفة عن الآخر، أي أن كل واحد يدخل هذه الدائرة من نقطة خاصة به.

1 comment:

Anonymous said...

This is a beautiful article. I specifically enjoyed the last part where it diagnoze the different stages of faith, trust and the spiritual individualistic experience. Thank you.
P.S. By the way Dr. why don't you update the blog more often? Guess you are too busy right?

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html