Sunday, February 11, 2007

الله كلّي القوة

الله كلي القوة

من الصفات الإلهية المثيرة للجدل، صفة القدرة الكلية. من منظور الإيمان الكلاسيكي بالله، الله يمارس قدرته الكلية بطريقتين: الطريقة الأولى هي التدخل غير المباشر عن طريق طرق وأسباب ثانوية، والطريقة الثانية هي التدخل المباشر الذي من خلاله خلق العالم من الأساس، وهذا التدخل اليوم هو ما يصنع المعجزات. ولكون الطريق الأولى المبنية على الأسباب هي الطريقة المعتادة، حتى لا يشعر البشر بالخوف والرعب من قوة الله المطلقة. أي أن الله كما لو كان قد "روض" قوته وجعلها تسير في مسارات من الأسباب المنطقية الثابتة لكي يسمح للإنسان بالوجود وممارسة قوته وحرية اختياره ويحميه من الخوف والسلبية. معنى هذا أن كل شيء في النهاية معتمد على الله ولكن الله لم يحدد بشكل حتمي كل شيء بل سمح للإنسان الحر أن يحدد لنفسه مسار حياته. Everything is dependant upon God, but not everything is precisely determined by God.

لقد قام الله بنفسه بعمل حدود لقوته وحريته، لكي يسمح لقوة وحرية الإنسان بالوجود.

كما أنه من المتفق عليه أن الله يستطيع أن يفعل أي شيء طالما لم يحتو هذا الشيء على تناقض. الله حر أن يعبّر عن جوهر ألوهيته لكن هناك أشياء لا يستطيع الله أن يفعلها. الله لا يستطيع فعل الشر (الله غير مجرب بالشرور!) لأنه متعارض جوهرياً مع طبيعته. الله لا يستطيع أن يموت ولا يستطيع أن يخلق إلهاً آخر كلي القدرة! لأن هذا يتناقض جوهرياً مع طبيعة القدرة الكلية. لذلك يقول توما الأكويني: " كل ما يشتمل على تناقض لا يمكن أن يوجد في إطار قدرة الله الكلية."

أظهر إله العبرانيين قوته ليس من خلال تنظير فلسفي وإنما من خلال تدخل تاريخي أثبت به أنه أقوى من قوة فرعون العسكرية وأقوى من الطبيعة. وفي النهاية أسس يهوه العهد مع الشعب في جبل سيناء. كلمة شدّاي تعني كل من "جبل" و" قدرة" في نفس الوقت. ففي هذا الجبل رأى الشعب قدرة الله وفهموا أنه كليّ القدرة. ومن هنا جاءت الرموز الكتابية الدالة القدرة مثل: "ملك الله"، "سيادة الله"، وغيرها من تعبيرات القوة والسلطان في العهد القديم. لكن في كل مرة يعلن الله قوته، لا يعلنها في صورة قوة غاشمة بلا عقل وإنما هي قوة يمارسها الله لتحقيق نعمته.

ثم في العهد الجديد، أعلنت قوة الله من خلال تواضع المسيا الحقيقي، يسوع المسيح، الذي صُلِب من ضعف. لهذا يقول بولس أن "ضعف الله أقوى من قوة الإنسان." (1كو 1- 25- 27 ، 2كو 13: 4).

فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. ِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، ويَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ. (في 2: 6-9). هكذا من خلال الضعف، ظهرت قوة الله المُخَلِّصة.

يعترض بعض الفلاسفة مثل ألفريد نورث وايتهيد وتشارلز هارتشورن على فكرة القدرة الكلّية لكونها تستبعد مفاهيم مثل الصدفة أو الحرية من المشهد الكوني. يقول هارتشورن أن المفكرين المسيحيين اتبعوا نموذج "الطاغية" مصورين الله ليس كملك ينقذ ويخلص ويؤسس ولكن كطاغية يتخلص بصورة مستمرة من أي بادرة للحرية الإنسانية لكي يكون حكمه الإلهي مطلقاً وكاملاً. ثم يقدم هارتشورن هذا التحدي:" هل يمكننا أن نعبد إلهاً خالياً من السخاء للدرجة التي تجعله ينكر علينا أي مشاركة، مهما كانت متواضعة، في تحديد بعض التفاصيل في هذا العالم كمشاركات ضئيلة في تلك العملية الإبداعية التي تسمى الواقع؟"

لكن هل هذا الاتهام الذي اتهم به هارتشورن المفكرين المسيحيين صحيحاً؟ أظنه ليس كذلك. فالهدف من مفهوم القدرة الكلّية ليس الطغيان وإنما الخلاص من الطغيان. لقد استخدم يهوه قوته لتحرير شعبه من الطغيان. لذلك فإن أي طغيان باسم الله (أي دين سلطوي) يتعارض مع طبيعة الله نفسه ويسيء للإيمان به.

إن عقيدة القدرة الكلية تؤمن أن العالم كله معتمد على الله وفي نفس الوقت تؤكد على أهمية القرار الإنساني. هذه الفكرة نشأت من خلال التفريق الكلاسيكي بين قدرة الله المطلقة Absolute power والتي بها خلق العالم كله من العدم وبين قدرته المعتادة Ordinary Power التي تعمل يومياً من خلال الأسباب. بكلمات أخرى، الله يحدّ يومياً من قدرته المطلقة لكي يسمح لحرية وإبداع الإنسان بالمشاركة معه في إدارة العالم.

يشبه الأمر أم تعد عجين الفطائر وتترك لأطفالها حرّية أن يشكلوها ويخبزوها كيفما شاءوا.

القدرة الكلية في المفهوم المسيحي مرتبطة بوعد الخليقة الجديدة الذي أعطانا عربونه من خلال إقامة يسوع من الأموات. لقد احتاج الأمر من الله قوة لكي يقيم يسوع من الأموات وهو ما يزال يستخدم قوته لتغيير الدهر الحالي و لتحقيق ملكوته الأبدي. قد نظن أن الله لا يعمل بالسرعة أو بالقوة الكافية، لكنه لا يعمل بمفرده بل نحن نعمل معه، نساعده ونعطلّه في نفس الوقت. لقد اختارت الأم أن تعد الفطائر مع أولادها وضحّت بالإتقان والسرعة في سبيل الحرية والمشاركة. لكنها في النهاية سوف تصل بالخليقة للاكتمال. أما عن كيف سوف يصل الله بالملكوت للاكتمال، فهنا يختلف الألفيون (سواء القبل ألفيين أو البعد ألفيين) مع اللاألفيين. الألفيون يقولون أنه سيأتي وقت ستتوقف "الأم" عن السماح لأولادها بالمشاركة أي يأتي المسيح ويؤسس ملكه الكامل (مادّياً لألف سنة ثم الحياة الأبدية، أو بالحياة الأبدية مباشرة) أما اللا ألفيين فيقولون أن الله سوف يستمر في تكميل الخليقة بهذه الصورة التدريجية بدون أحداث أخروية.

لكي أختم هذا الجزء من المناقشة، أحب أن أؤكد أنني في تفسيري لصفات الأبدية والقدرة الكلية والاستعصاء على الفهم قصدت أن أوضح أن محاولة فهم صفات الله تمثل عملية من التفسير اللاهوتي لتلك الرموز الكتابية المصمتة الغنية بالمعنى وهذا التفسير تم في ضوء نظرة للعالم كانت موجودة في روما القديمة وأوربا في العصور الوسطى، تلك النظرة التي كانت متأثرة إلى حد كبير بالمتيافيزيقا الإغريقية.

وتظل عملية التفسير اللاهوتي مستمرة وهي مستمرة اليوم. ويعد خطأَ كبيراً يرتكبه لاهوتيو هذا العصر إذا قبلوا المفاهيم التي يورثها لهم لاهوتيو الماضي المتأثرون بالثقافة الإغريقية ويعتبرونها مفاهيم محددة غير قابلة للنقد. لأنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم عندئذ يحولون هذه المفاهيم الروحية المجردة إلى مفاهيم "صنمية" جامدة ويجعلوا الميتافيزيقيا الإغريقية تحدد لنا واقعنا اليوم.

وليس لنا سبيل لمنع هذا "التصنيم" إلا أن نستخدم بصورة مستمرة النقد وإعادة المسايقة contextualization and criticism وذلك لكي نذكر أنفسنا أن هذه القائمة الكلاسيكية من صفات الله ليست منزلة ولكنها نتاج عملية لاهوتية سابقة من تفسير الرموز الكتابية. وكما فسر لاهوتيو الماضي تلك الرموز في ضوء سياقاتهم الفكرية في ذلك الوقت، يمكننا نحن أيضاً أن نفسر نفس الرموز الروحية الأبدية في ضوء سياقاتنا الحاضرة. وذلك إيماناً منا بأن هذه الرموز هي إعلانات من الله ولذلك فهي قادرة على ولادة مفاهيم روحية أبدية قادرة أن تخاطبنا بلغة جديدة في كل عصر.

إننا لا نقصد أن نشطب المفاهيم اللاهوتية القديمة ونتوقف عن دراستها، ولكننا يجب أن نتعامل معها كمعلومات لاهوتية وليس كوحي مُنَزَّل. الهدف اليوم هو أن نتجاوز هذه المنظومات اللاهوتية الكلاسيكية، ونذهب مباشرة إلى الرموز الكتابية الأصيلة ونحاول تفسيرها في ضوء رؤية العالم في عصر الحداثة الحالي وعصر ما بعد الحداثة الذي يبزغ علينا فجره. سوف أحاول أن أوضح هذا جزئياً من خلال تناول الصفات الإلهية من خلال مناقشة حياة الله الثالوثية The Trinitarian life of God وعقيدة الخليقة The doctrine of creation وذلك في ضوء العلوم الطبيعية المعاصر.

باختصار كما قدم لنا لاهوتيو الماضي تفسيراً لاهوتياً معاصراً (لوقتهم) في ضوء الميتافيزيقا الإغريقية ورؤية العصور الوسطى للعالم، يجب أن نقدم تفسيراً لاهوتياً معاصراً لنفس الرموز الكتابية الأبدية وذلك في ضوء ما يقدمه عصر الحداثة وبعد الحداثة من رؤية للعالم.

م)

شرح الرموز اللاهوتية

اللاهوت كتفسير للرموز الإنجيلية


الإنجيل يمثل خبرة "مدمجة" compact مع الله، مقدمة لنا في صورة هذا الخبر أو تلك الرسالة. اللاهوت هو عملية تفسير و"فك" هذه الخبرة المدمجة كمن يفتح حقيبة ملابس ويخرج منها العديد من الملابس ليلبسها في مناسبات متعددة. هذه الملابس تناسب عصوراً متعددة وتتحدث إلى قضايا عصرية مختلفة، واضعين في اعتبارنا تلك الهوة التفسيرية بين النصوص القديمة والفهم العصري، سوف نتأمل تعريف اللاهوت النظامي باعتباره تفسيراً معاصراً للرموز التاريخية. وسوف نتأمل هذا التعريف في ضوء وظيفتين للاهوت وهما الوظيفة التفسيرية فاللاهوت النظامي يحاول أن يشرح محتوى ومعنى الإيمان المسيحي بطريقة أمينة للرموز الأولية الموجودة في الكتاب المقدس. أما الوظيفة الثانية فهي الوظيفة البنائية. اللاهوت النظامي يحاول أن يقدم أكفأ الشروح وأكثرها معنى وقابلية للفهم للبنية الأساسية للواقع بصورة يشترك فيها اللاهوتي مع معاصريه الذين يعيشون معه في نفس الإطار الزمني. ربما منهم الفلاسفة أو علماء النفس أو الاجتماع أو الناشطين في حقوق الإنسان أو الفنانين. يسمي بعضهم هذا "التطبيق" ولكنه أكثر من التطبيق ففيه بناء وتحول وتغيير

سبعة مبادئ لشرح وتفسير الرموز الإنجيلية

المبدأ الأول: وضع قوانين الإيمان. قوانين الإيمان هي مختصرات للإيمان المسيحي. منذ قانون الإيمان الرسولي والنيقوي، كانت قوانين الإيمان تقسم إلى ثلاثة أقسام وفقاً للثالوث. هذا التقسيم لم يفرضه الكتاب المقدس ولا أي سلطة أخرى، ولكنه نما بصورة تاريخية تلقائية.

في هذا الكتاب، يقدم تيد بيترز بعد المقدمة جزءاً بعنوان:

ينبوع الخليقة .... وهذا يقابل المادة الأولى من قانون الإيمان النيقوي و الرسولي المختص بالله الآب.

أما الجزء الخاص ... بالتذوق الباكر للخليقة الجديدة فهو يقابل المادة الثانية من قوانين الإيمان المختصة.. بالابن والجزء الخاص بحياة الخليقة الجديدة فيقابل المادة الثالثة المختصة بالروح القدس والكنيسة والدهر الآتي. ثم يقدم بيترز فصلاً أخيراً بعنوان Proleptic co-creation أي المشاركة الاستباقية في الخلق. وهي تتناول تحدي التعددية والأخلاقيات الاجتماعية The challenge of pluralism and social ethics

المبدأ الثاني: المبدأ النظامي Systematic Principle اللاهوت النظامي بطبيعته البنائية له طابع تخميني، فهو نظام فكري يتميز بالتأمل الحدسي. إلا أنه تخمين مسئول. وتكمن هذه المسئولية في أن يكون النظام متسقاً مع بعضه البعض وفلسفياً سليم ويحاول أن يقدم شرحاً كافياً للواقع.

المبدأ الثالث: المبدأ المسكوني Ecumenical Principle لأمانة للنص الكتابي تجعل اللاهوت مسكونياً أكثر من كونه طائفياً أو كنسياً. مهما كانت ثقافاتنا المحلية، تستطيع الرموز الكتابية أن تربطنا بمجتمع القديسين حول العالم وعلى مدى القرون.

حتى القرن الرابع، جمعت الرموز الكتابية وتفسيراتها التي تمت في قانون الإيمان النيقوي والرسولي حولها كل المؤمنين في العالم حتى نهاية القرن الرابع الميلادي. المبدأ المسكوني يؤكد على الوحدة في إطار مساندة التعددية.

المبدأ الرابع: مبدأ المسايقة Contextualization

يقوم اللاهوتيون بتفسير الرموز الكتابية مع الانتباه الواعي لفهم الواقع السائد حولهم في سياق ما. السياق context هو مفهوم الواقع السائد في إطار حضاري ما. الإطار الحضاري الذي نحاول أن نفسر فيه هنا هو ذلك الإطار المتنامي للوعي البعد حداثي. لكنه من البديهي أن اللاهوت النظامي بمفهومه البنائي يمكن ويجب أن يراعي كل عصر وثقافة سواء كانت تعيش في السذاجة الأولى أو إعادة البناء البعد نقدي. هكذا يعد مبدءا المسايقة من ناحية والمسكونية من ناحية أخرى كقطبين مكملين لبعضهما البعض. المسايقة الأصيلة، هي تلك النابعة من لقاء حقيقي بين كلمة الله وعالم الله، والتي تتحرك نحو هدف تحدي وتغيير الموقف من خلال التأصل والأمانة للحظة التاريخية التي تتم فيها هذه المسايقة. بكلمات أخرى لا يقوم السياق باستبدال النص وإنما يفسره. من هذا المنطلق لا يمكن للعلم الأمين لحقائق العالم دون محاولة فرض نظريات (علم النفس مثلاً) أن يتعارض مع اللاهوت الأمين لحقائق الرموز الكتابية أن يتعارضا حيث لا يمكن أن تتعارض كلمة الله مع عالم الله.

المبدأ الخامس: مبدأ التورط Engagement Principle

يجب أن يكون الفكر البنائي متورطاً في الفهم الأساسي للواقع الذي يشير للسياق أو الإطار الثقافي والتاريخي الذي يعمل فيه. على سبيل المثال، لا ينبغي للمسيحيين الصينيين فقط أن "يعمدوا" الكونفوشية وإنما يتورطون معها في حوار وإعادة تقييم نقدي لهذا الفكر في ضوء الرموز المسيحية. وهذا بالضبط ما فعله المسيحيون الأوائل مع الفلسفة الأفلاطونية.

العالم يحاول أن يعرف الحقيقة و يعرف نفسه من خلال الحكمة البشرية، ونحن نؤمن بإعلان الله عن نفسه من خلال الرموز الكتابية، ونؤمن بسيادة هذا الإعلان على العقل البشري لكوننا نؤمن بقدرات وفساد هذا العقل في الوقت نفسه. لذلك لكي نقدم هذا الإعلان للعالم علينا أن ندخل في حوار بين الحكمة البشرية بما فيها من فلسفة وعلم نفس وأديان من ناحية والرموز الكتابية من ناحية أخرى

تطبيق هذا المبدأ في هذا الكتاب يتعامل مع الفهم الحداثي السائد والبعد حداثي المتنامي في الغرب. هذا المجهود لا يقتصر على الغرب لكون الوعي البعد حداثي يتميز بالكونية والعولمة. حيث أن العلاقة الجدلية بين الحفاظ على كيان الثقافة المحلية من ناحية وفي نفس الوقت التأكيد على وحدة الكيان البشري العالمي من ناحية أخرى، هي جزء لا يتجزأ من الوعي المعاصر.

المبدأ السادس: مبدأ النقد الذاتي Self-Criticism Principle

يبدأ هذا المبدأ بالسؤال: هل هذا صحيح؟ وإن كان صحيحاً، إلي أي مدى هو كذلك؟ ما هو البديل للالتزام المسيحي؟ هل هذه البدائل أفضل؟ وهذا المبدأ يستدعي التفكير النقدي لفلسفة الدين إلى بيت اللاهوت النظامي.

هذا المبدأ يفتح الباب للتفسير المبني على الشكHermeneutic of suspicion في هذا نسأل أنفسنا إن كانت مواقفنا اللاهوتية على سبيل المثال تخدم مصالح طبقة معينة؟ أو إن كانت رموزنا اللاهوتية تخدم مصالح ذكورية أو أبوية تقهر المرأة؟ هل تلعب الكنيسة دوراً تغييبياً تخديرياً يؤدي إلى تنويم الروح الثورية؟ هذا الوعي النقدي الذاتي يساعدنا دائماً على تنظيف بيتنا من الداخل. هذا الوعي النقدي هو أكثر من مجرد تقنية فكرية، وإنما هو منبثق أساساً من لاهوت الصليب.

هذا اللاهوت الذي يبدأ من إحباط أتباع يسوع الذين كانوا يحلمون أن نجار الناصرة هذا سوف يصبح ذلك القائد الثوري الذي كانوا يحلمون به لتخليصهم من الرومان، بعضهم كانت أحلامه أكبر من ذلك، فكانوا يحلمون أن يكون هو الملك المسياني الذي سوف يدخل بهم إلى العصر الأخروي ومجد ملكوت الله الأبدي. ولكن كيف تحطمت كل هذه الأحلام على صخرة الجلجثة. لقد جاء الصليب محبطاً ومتحدياً لأحلام وتفسيرات البشر. لم يتصرف الله كما كان الجميع يتوقعون. لذلك فإن تفسير "رمز" الصليب دائما يدعونا لأن نثق في الله والله فقط ونقبل أن يتحدى الله كل أحلامنا وتفسيراتنا و عقائدنا "المقدسة" ويتصرف كما يريد هو!

المبدأ السابع: مبدأ الكفاية التفسيرية Explanatory adequacy

مبدأ الكفاية التفسيرية هو المقياس لنجاح ذلك اللاهوت البنائي في ساحة التنافس بين الرؤى المختلفة للعالم، سواء كانت علمانية أم دينية. ينبغي أن نتساءل: هل تقدم الرؤية المسيحية منظوراً أكثر تكاملاً وشمولية وتلقي ضوءاً أفضل من الرؤى الأخرى على خبرة الإنسان بنفسه وبالعالم وبالله؟ كيف يمكننا أن نحكم على أي نسق لاهوتي، إن كان كافياً أم لا؟ أظن أن النسق اللاهوتي يصبح له معنى إذا توافرت فيه أربعة سمات وهي:

1) قابلية التطبيق

2) الشمولية

3) المنطقية

4) الاتساق

من حيث قابلية التطبيق نقصد وجود أمثلة من الخبرة الإنسانية المعاصرة فيها ينطبق هذا اللاهوت على الواقع ويؤثر فيه. على سبيل المثال، هل يقود هذا اللاهوت برامج تُحسن بالفعل من وضع الإنسان الروحي والنفسي والمادي والاجتماعي.

هل يجعل الإنسان أكثر تكاملاً وصحة؟ هل يجعل الأسر أكثر ملائمة؟ هل يجعل المجتمع أفضل اقتصادياً؟ هل يجعل المجتمع أفضل أخلاقياً؟ هل يجعل في المجتمع فرصة أكثر للضعفاء، ويخلّصه من الظلم والعزل والوصم؟ هل يواجه المشكلات الإنسانية الأكثر صعوبة والتي تتضافر فيها عوامل متعددة روحية ونفسية وثقافية واقتصادية؟

- كيف يؤثر اللاهوت في تعامل المجتمع الذي يتبناه مع قضايا التمييز المبنية على الجنس أو اللون أو الدين أو ا لنوع (ذكر/أنثى)؟

- كيف يؤثر اللاهوت في تعامل المجتمع الذي يتبناه مع قضايا حقوق الطفل و المرأة؟

- كيف يؤثر اللاهوت في تعامل المجتمع الذي يتبناه مع قضايا العدالة الاجتماعية والحرية والفرص المتساوية أمام الجميع؟

- كيف يؤثر اللاهوت في تعامل المجتمع الذي يتبناه مع الأمراض المجتمعية التي لها أبعاد روحية ونفسية وسياسية وحقوقية (مثل الإيدز والإدمان)؟

- كيف يتبنى موقفاً متزناً من القضايا الجدلية مثل قضايا الحرب والسلام، الجنسية المثلية، الزواج والطلاق، الخ..

أما من حيث الشمولية فأقصد (تيد بيترز) قدرة هذا النسق اللاهوتي على تفسير كل جوانب الواقع الإنساني المُختَبَر. بالطبع، نظراً لمحدودية المفكر الذي يستخدم هذا النسق، لن يمكن في كل وقت من الأوقات تفسير كل جوانب الواقع، ولكن النسق اللاهوتي الكافي هو ذلك النسق المرن الذي القادر على توليد تفسيرات جديدة في كل عصر تبعاً لتنوع وتخلق العديد من الخبرات الإنسانية وتنامي قدرة الإنسان على التعامل مع واقعه.

عند هذه النقطة بالذات أود (أوسم) أن أشير إلى مثال في النظرة اللاهوتية المسيحية لقضايا التمييز والعدالة الاجتماعية. أولاً يجب أن نعترف أن الكتاب المقدس له دائماً بعدين: البعد الإنساني الاجتماعي المباشر، الذي يخاطب به المستمعين الأولين، والبعد الروحي الأبدي الذي يخاطب به البشر في كل العصور من خلال الرموز القابلة للترجمة والتفسير اللاهوتي في كل عصر وخلفية ثقافية. ومن صور كفاية النسق اللاهوتي المسيحي هو كون هذان البُعدان وإن اختلفا ظاهرياً باختلاف العصور، لا يتناقضان جوهرياً.

على سبيل المثال، لم يهاجم العهد الجديد العبودية صراحة، بل أوصى العبيد أن يطيعوا سادتهم. ذلك لأن الظرف الاجتماعي والاقتصادي في ذلك الوقت لم يحتمل مهاجمة الرق بشكل واضح وصريح، و إلا ينهار النسق الاجتماعي و الاقتصادي كله. ولكن فتح الباب لحرية العبيد، من خلال مبدأين في غاية القوة "خبأهم" الروح القدس في العهد الجديد كقنابل موقوتة ريثما يأتي وقت انفجارها وهما: "لقد اشتريتم بثمن فلا تكونوا عبيد الناس." والثاني هو: " ليس عبد أو حر في المسيح." إن كان هناك عبد وحر عند الناس، فلا عبد وحر عند المسيح. ثم أوصانا أن نصلي أن يأتي ملكوته على الأرض، ولتكن مشيئته كما في السماء (عند الرب) كذلك على الأرض (عند الناس). وبالفعل جاء عصر الاستنارة وجاءت الثورة الصناعية، فهب رجال مسيحيون أتقياء قادوا حركة تحرير العبيد.

بالمثل، في العلاقة بين الرجل والمرأة، لم يكن ممكنا ً المناداة با لمساواة الكاملة، بل كان يجب وجود وصايا مثل: "لتهب المرأة رجلها" و "أيها النساء اخضعن لرجالكن." و "الرجل رأس المرأة". لأن النظام الاجتماعي اليهودي والأممي اليوناني لم يكن ليستوعب بعد مبدأ المساواة الكاملة. ولكن وضع الوحي أيضاً قنابل موقوتة في الكتاب المقدس بدءاً من "معيناً نظيره" في سفر التكوين وحتى العهد الجديد حيث يقول كما أنه ليس عبد أو حر في المسيح، ليس هناك أيضاً "ذكر و أنثى" و " كونوا جميعاً خاضعين لبعضكم البعض." الموقف العجيب المتناقض، هو أننا عندما نقرأ وصية " أيها العبيد اخضعوا لسادتكم." نعترف بسهولة بأنها "آية" تنتمي للبعد الزمني الاجتماعي الذي لم يعد ينطبق على عصرنا وبالتالي، نعبر بها الهوة التفسيرية ونترجمها إلى علاقة العمال بأصحاب العمل. لكن عندما نأتي إلى وصية " أيها النساء اخضعن لرجالكن." لا نفعل الشيء نفسه، وإنما نقبلها بشكل حرفي. هل لأن علاقة العبد والسيد انتهت، بينما علاقة الزوج والزوجة لا تزال موجودة.؟ ربما! لكن ألم يأت الوقت الذي فيه ترتفع فيه هذه العلاقة للمستوى الروحي الذي قصده الله. ألم تنضج البشرية، للدرجةالتي فيها تستوعب المبادئ الروحية التي لم تكن تستوعبها في أجيال سابقة من الظلم والتمييز. كان المفترض الآن كما تحرر العبيد أن تحرر المرأة بنفس الدرجة، ولكن ردة لاهوتية وحضارية حدثت. حيث تآمرت علينا الثقافة البدوية من ناحية، مع الأصولية الحرفية المسيحية من ناحية أخرى لتجعل من ينادي بالحرية الكاملة للمرأة زنديقاً كافراً غير مؤمن بوحي وسلطان الكتاب المقدس !!!!

بالنسبة للشمولية نعني أنه لا توجد خبرة إنسانية ذات معنى لا يستطيع هذا النسق اللاهوتي تفسيرها. بالطبع بسبب محدودية الفكر الإنساني، لا يمكن تفسير كل ما هو في الواقع، إلا أن النسق اللاهوتي الكافي هو نسق مرن ومنفتح وقادر على استيعاب خبرات جديدة واستدماجها في النسق اللاهوتي بأمانة لكل من الواقع المعاصر والرموز التاريخية. الصفة التعددية للإطار الحضاري بعد الحداثي الذي نعيش فيه تشكل تحدياً كبيراً للاهوت النظامي حيث أنه هناك أنظمة رموز عديدة تحاول أن تفسر خبرة الإنسان مع الواقع وكلها تدّعي أنها تقدم التفسير الأكثر كفاية.

وبالنسبة للمنطقية، نعني أن اللاهوت ينبغي أن يحاول أن يكون غير متناقض جوهرياً. إن كان الواقع يقدم نفسه دائماً في صورة سرّية أو متناقضة ظاهرياً Paradoxical فإن النسق اللاهوتي الذي يحاول أن يفسره يجب أن يتعاطى مع هذه الحقيقة بالحذر اللازم والإيمان بأن الوجود له صفة من الغموض والتوتر والجدل بين أمور تبدو متناقضة ولكنها متحققة معاً. المنطق لا يتطلب أن يكون الواقع دائماً سهلاً وكل الأسئلة مجابة وكل المطبات قابلة للتمهيد، ولكنه يتطلب ألا يكون هناك تناقضاً جوهرياً. فمثلاً لا يمكن للشيء أن يكون موجوداً وغير موجود في نفس الوقت ، لكنه من الممكن أن يكون موجودأً في أكثر من حالة في نفس الوقت. (قوي وضعيف، سعيد وحزين، الخ)

العهد الجديد مليء بهذا البعد الجدلي للوجود فطبيعة المسيح نفسها جدلية فهو الإنسان الكامل والإله الكامل في نفس الوقت ورسالة الخلاص هي رسالة الموت الذي يؤدي للحياة وبولس يكرر في مرات عديدة كيف أن القوة هي في التسليم بالضعف والحكمة الحقيقية هي في الاعتراف بعدم المعرفة. لذلك علينا أن نتعاطى مع الأسئلة اللاهوتية كما يقول العهد الجديد دائماً بوداعة وخوف، وليس بتصلف من يظن أنه قادر على الإجابة عن كل الأسئلة.

أخيراً الاتساق هو أن يكون هناك تكامل وتجانس بين المبادئ المختلفة داخل النسق الواحد بحيث يمكن الدخول لهذا النظام المتسق من أي باب من الأبواب والوصول لكل ما في ذلك "لبيت" الفكري دون أن يكون هناك طرقاً مسدودة. فالكل يؤدي إلى الكل

إذاً اللاهوت ليس هو مجرد التفسير، ولكنه التفسير في سياق الظرف الواقعي المعاصر. أي أنه جعل الرموز الكتابية بما فيها من معاني روحية أبدية، تتعامل مع الواقع في كل عصر وتعمل فيه وتغير فيه. الهدف من اللاهوت النظامي ليس فقط فهم النص الكتابي ولكن أيضاً فهم الواقع باستخدام مصباح كلمة الله. اللاهوت يؤمن أن كلمة الله وإن كانت مخبأة في نصوص عتيقة إلا أنها تحمل نوراً يجعلنا نرى الواقع الذي نعيش فيه الآن بصورة أفضل. اللاهوت هو الذي يخرج هذا المصباح من غلافه التاريخي لكي يجعله ينير في كل عصر.

وبسبب المحدودية والتوتر والجدلية والارتباط بالسياق والمنظور وكل ما يميز المعرفة الإنسانية، فإن اللاهوت ليس مطلقاً ودائماً في حالة تطور ونمو. لا يمكن أن نعتبر أن اللاهوت نهائي أو جامد، فاللاهوت كائن حيّ. لذلك على اللاهوتيين دائماً الرجوع للبدايات واستخراج النور من الرموز لإضاءة الواقع ورؤية الجديد. لذلك فإن المسيح يقول عن كل كاتب متعلم في ملكوت السموات أنه كرب ب

القانون بداخل القانون Canon within the Canon

تفترض هذه النظرية أن الإنجيل وهو كإعلان فداء الله في المسيح هو المقياس للكتاب المقدس. وهذا يعني أننا ينبغي أن ننظر فيما وراء الألفاظ لكي نجد البناء الأعمق الذي تدور حوله الرسالة الأصلية وهو رسالة العلاقة بين الله والإنسان والتي بادر الله ببنائها من خلال المسيح وهذا هو الإنجيل. إذاً فالرسالة الجوهرية للكتاب المقدس هي أن الله بكل حرية ونعمة، تصرف بالنيابة عن الجنس البشري (كان الله في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم) يجب إذاً فهم الكتاب المقدس على أنه أولاً حدث ثم إعلان وأخيراً كتابة.

لم يؤمن لوثر مثلاً أن كل الكتاب هو إنجيل ورأى أن الكتب المقدس تتفاوت فيما بينها بقدر ما فيها من "إنجيل" وعلى هذا الأساس قام بعمل تصنيف للعهد الجديد بحسب مدى وضوح تقديم كتبه للإنجيل في ثلاث فئات:

1) المستوى الأول و يتكون من أسفار تقدم الإنجيل بوضوح وبذلك تقدم المقياس للباقين وهي رسائل بولس وإنجيل يوحنا.

2) المستوى الثاني هو الأناجيل المتفقة وسفر الأعمال وبطرس الأولى والثانية.

3) أما المستوى الأدنى فهو رسالة يعقوب ويهوذا وسفر العبرانيين والرؤيا.

إلا أن لوثر لم يُسقِط أي من أسفار الكتاب ولا حتى الأبوكريفا التي أسقطها إقرار الإيمان الوستمنستري بل اعترف أن بعض الكتابات عندما قرأها أدرك أنها هي بالذات هي ما كان يحتاجه وقت الاضطراب و ا لتجربة. إذاً فإن نظرية القانون داخل القانون لا ترى أن القانونية هي في الوحي بقدر ما هي في وجود الإنجيل.

الاعتراضات على فكرة القانون بداخل القانون

1) يخشى الكاثوليك أن هذه الفكرة قد تحط من قدر بعض الأسفار وتعلي من قدر أسفار أخرى وبالطبع هذا الاعتراض هام جداً ويعلمنا أننا في استخدامنا لهذه الفكرة لا يجب أن نتبع منهجاً اختزالياً به نعتبر بعض النصوص إنجيلاًُ وغيرها ليس كذلك. أي أن استخدام هذه النظرية لا يجب أن يشجعنا أن نتعامل مع الكتاب مستخدمين "مقصاً" لنقص ما هو إنجيل من الكتاب وإنما نتعامل معه مستخدمين "عدسة مكبرة" تحاول أن ترى الإنجيل فيما وراء الكلمات والأحداث. نحتاج لأن نفتح قلوبنا لكي نميز الروح الخاصة للإنجيل في الكتاب المقدس.

2) المجموعة الثانية التي قد تعترض على هذه النظرية هي مجموعة البروتستانت المحافظون والأصوليون الذين يتمسكون بعقيدة الوحي المتساوي لكل كلمات الكتاب المقدس، ويرفضون فكرة أن الروح القدس قد يوحي بأمور عميقة في مرات وأمور سطحية في مرات أخرى. هناك نقطتي ضعف لعقيدة الوحي المتساوي هذه:

أولاً: ليس هناك ضمان لقدرتنا على قياس أي جزء من الكتاب لكي نحدد إذا كانت درجة الوحي متساوية أم لا ففكرة الوحي داخل الوحي لا تمر على الكتاب المقدس بعداد جيجر مثلاً لتكشف مدى وحي أي فقرة عن الأخرى وتقرر أنها متساوية أو مختلفة، ولكنها تتعامل مع الكتاب المقدس باعتبار أنه في مجمله وفي كل أجزاءه هو "مهد الإنجيل" كما قال لوثر. وتعبير مهد هذا مهم جداً، فكما أننا لا نساوي بين الطفل والمهد فالطفل بالطبع أهم جداً من المهد، إلا أننا لا نجرؤ على إلقاء المهد في النهر لأنه هو الذي يحمل الطفل، ونحن لا نستطيع أن نفصل الطفل عن المهد. على سبيل المثال إذا نظرنا إلى لوحة جدارية هائلة ككل سوف نرى فيها صورة كلية جميلة ولكن هل نرى هذه ا لصورة فغي كل جزء صغير منها؟ بالطبع لا. ولكن هل يبرر هذا أن ننتزع منها الأجزاء التي لا نراها جميلة بالقدر الكافي؟ لو فعلنا هذا لتشوهت الصورة وضاع جمالها. علينا أن نبقي على كل الأجزاء موقنين أن جمال الصورة ليس في الأجزاء وإنما في الكل. بالنسبة للكتاب المقدس، الصورة الكلية هي الإنجيل. هي خطة الله لفداء الإنسان التي يحصل عليها بمعونة الروح القدس ونحن ننظر للكتاب ككل أنه كلمة الله لأنه هو الذي يقدم لنا الإنجيل.

ثانياً: نقطة الضعف الثانية هي المنطق الخاطيء الذي يعتبر أن صفة الكل يجب أن تنطبق على كل جزء. فعندما نصف عمارة شاهقة مكونة من عدد كبير من الشقق أنها عمارة "كبيرة" هل نستطيع أن نطلق نفس الصفة على كل "شقة" فيها؟

الخطأ الذي في فكرة الوحي المتساوي يحدث عندما ننطلق في نقاشنا من فرضية أننا عندما نقول أن الكتاب المقدس ككل هو كلمة الله فهذا يعني بالضرورة أن كل كلمة فيه هي كلمة الله بنفس القوة التي نطلق بها هذه الصفة على الكل (ونقصد بالكل الكتاب كله مع كل الحياة التي فيها بعمل الروح القدس).

فكرة القانون داخل القانون تقول أنه من الممكن اعتبار أن الكتاب المقدس ككل هو كلمة الله بدون إعطاء سلطة متساوية لكل كلمة فيه ولا لكلمات أكثر من كلمات وإنما إعطاء السلطة للإنجيل (أي الرسالة المحورية) التي فيه والتي تعبر عنها كل الكلمات في مجموعها دون أن تكون كل كلمة معبرة عنها بنفس الدرجة.

فكرة القانون داخل القانون تذكرنا أن كثير مما في الكتاب المقدس يتداخل مع أدبيات أخرى ويقدم أحياناً خلفيات تاريخية أو غيرها من السياقات لرسالة الفداء الأساسية.

3) الاعتراض الثالث يأتي من البروتستانتية المتحررة، ففي كتاب " البحث عن المسيح التاريخي" الذي صدر في نهاية القرن 19 وسيمينار يسوع في نهاية القرن العشرين والذي يقول أن القانون ليس في داخل القانون وإنما فيما وراء القانون. Not Canon within Canon but Canon beyond Canon هم بذلك يعتبرون أن القانون سابق على الكتاب وكامن في يسوع التاريخي الذي كان موجوداً قبل أن يُكتَب الكتاب، وهم يريدون أن يبحثوا عن يسوع مجرداً مما أضفاه عليه كاتبوا الكتاب المقدس من أفكارهم اللاهوتية. وفي وجهة نظرهم يسوع التاريخي هذا هو القانون. المشكلة في تلك النظرة هي أننا لا نستطيع الحصول على يسوع التاريخي هذا فكل ما كتب كان شهادة تاريخية عن يسوع بالإضافة إلى المعنى اللاهوتي لهذه الشهادة التاريخية، لذلك فإن أي محاولة لتجريد يسوع من الإطار اللاهوتي والعقائدي المحيط به سوف تنتهي بأن يضع هؤلاء المفكرون إطاراً عقائدياً من عندهم فتكون النتيجة أنهم يصنعون يسوعاً شبيهاً بهم وليس هو أيضاً يسوع التاريخي! فإن كانوا يتهمون كتاب العهد الجديد أنهم صنعوا يسوعاً من وحي أحلامهم اللاهوتية الأخروية، فهم أيضاً يصنعون يسوعاً آخراً من وحي أحلامهم المادّية العقلانية المعادية لكل ما هو فوق طبيعي. إنهم يصنعون يسوعاً علمانياً شبيهاً بهم.

الإنجيل و الكتاب المقدس

الإنجيل هو المقياس الجوهريMaterial Norm أما الكتاب المقدس فهو المقياس الشكلي Formal norm

ليس الكتاب المقدس"منزلاً" من السماء وإنما هو تسجيل لشهادة حية عن فعل الله في التاريخ. هذا التسجيل تم بعناية خاصة من الله وهذه العناية الخاصة تسمى الوحي. نفس الروح القدس الذي اعتنى بعملية تسجيل الحدث هو الذي يعمل أيضاً في قلوبنا ويجعلنا نستقبلها ككلمة مباشرة من الله لنا.

الإعلان والإيمان والاستنارة

اللاهوت التقليدي القبل حداثي يفترض أن الله يعلن عن نفسه، عندما يصدق الإنسان هذا الإعلان فإن هذا يخلق الإيمان فيه. أما اللاهوت الحداثي (الأرثوذكسية الجديدة) فيعتبر أن الإيمان القلبي ضروري لفهم الإعلان، أي أننا يجب أن ننظر لما هو مسجل في الكتاب المقدس بعين الإيمان لكي نفهمه. بمعنى أن نفرض عليه تفسيراً دينياً من عندنا. أي أن عمل الإعلان يكون في قلب القارئ أيضاً. إيمان ما بعد الحداثة هو إيمان وعي متكامل وهو لذلك يقبل الفكرتين، لكننا يجب أن نفرق بين أمرين: منطق الإيمان من ناحية، وتاريخ وخبرة الإيمان من ناحية أخرى. منطق الإيمان يقول أن الإعلان يأتي أولاً ثم الإيمان به، لكن تاريخ وخبرة الإيمان يقول أن الإعلان لم يحدث في يوم من الأيام في بيئة خالية من الإيمان. معرفة الله، أو وجود إله، هي معرفة موجودة بالفعل في كل عصر من العصور. ثم يأتي القرار بالالتزام وتسليم الحياة للمسيح فيفتح القلب والذهن إلى مزيد من الفهم والإيمان.

الإيمان له ثلاث أبعاد: أولاً التصديق ثم الثقة ثم الاتحاد بالمسيح.

أولاً الإيمان هو تصديق أن بعض الأمور حقيقية، وهو يتضمن اقتناع عقلي بأمور معروفة. لأن الإيمان هو استجابة لخبر الإنجيل فهو يفترض حد أدنى من المعرفة بالحقائق التاريخية لهذا الإنجيل وحياة يسوع ومعناها بالنسبة لهم. هذا ينتج عنه اعتراف بالإيمان. صاغت الكنيسة إيمانها واعترافها بصورة لاهوتية من خلال قوانين الإيمان.

ثانياً: الإيمان لا يمكن أن يختزل إلى تصديق عقلي فقط، فالإيمان له بعد أكثر حيوية وديناميكية هو الثقة. أن نثق بالله للدرجة التي فيها نسلم له حياتنا ومستقبلنا. هنا الإيمان يأخذ طابع وجودي شخصي يحتوي الإنسان كله بإرادته ومشاعره وليس بعقله فقط. هنا تصبح المعرفة ليست فقط عقلية وإنما شخصية. الفقرة 20 من قانون إيمان أوسبرج تقول: “ الإيمان ليس فقط الإيقان بصدق الحقائق التاريخية وإنما الثقة في الله أن يتمم وعوده." وهي الوعود بالغفران والخليقة الجديدة والحياة الأبدية.

الثقة هنا تطرح الخوف إلى ا لخارج وتجعل الإنسان يقبل الحياة الحاضرة والآخرة بأمان واطمئنان أن الله معه. هذه الثقة تعبر عن نفسها عملياً من خلال الطاعة اليومية العملية، من خلال أعمال المحبة للآخرين والخدمة المضحية. ثم يكمل قانون إيمان أوسبرج: " عندما يعطى الله الروح القدس من خلال الإيمان، يتحرك القلب للقيام بالأعمال الصالحة."

عندما يضع الإنسان ثقته في الله، يعود ويسأل نفسه مرة أخرى سؤال الحقيقة، لأن أحداً لا يريد أن يثق بأمر غير صحيح. هنا تظهر الطبيعة الدورية للإيمان. عندما تزداد الثقة، نعود ونتساءل: " هل إيماننا صحيحاً؟" لا توجد إجابة مطلقة لهذا السؤال، لأن الجزء الأكبر من إيماننا في المستقبل، إذن هو وعد ننتظر الله ليتممه. هذا يفتح الإيمان دائماً لصراع الشك. وليس الشك دليلاً على ضعف الثقة بل على قوتها.

ثالثاً: ما يميز الإيمان المسيحي، هو أنه لا يقف فقط عند التصديق والثقة، وإنما هناك اتحاد فائق للزمان والمكان بين المؤمن والمسيح. يقول جون كالفن: "المسيح لا يوجد خارجنا"، " المسيح يسكن فينا." لقد أخذنا عطية الروح القدس بالإيمان، وهذا يضفي طبيعة سرية mystical على الإيمان تربطنا بالمسيح المصلوب متجاوزة التصديق والثقة والشك. يظل الشك موجوداً لأن ليس لدينا خبرة مباشرة بالمسيح ولم تتحقق الوعود الأبدية بعد، لكن ما يجعل إيماننا وثقتنا ينموان هو أن لنا خبرة روحية سرية بالمسيح، فإن كانت أعيننا لم تر المواعيد بعد ولكننا نصدقها ليس كخطوة عمياء في الظلام ولكن لأن الروح يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. بالرغم من أننا عقلياً ومنطقياً قد نشك في ذلك، لكننا روحياً نثق به لأننا نختبره روحياً. عندما نصلي، نرى الله بعيون روحية، هذا يهدئ شكوكنا العقلية ويعطينا الثقة لأن نقترب إليه ونطيعه ونتواصل مع روحياً فيزداد عمق هذه الشهادة الروحية، بحيث تتوه وسطها الشكوك العقلية المنطقية، ونستطيع أن نتغلب على تساؤلاتنا ونثق في أن الوعود وإن لم نرها بعد هي صادقة ـ " ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد." إذن هي دائرة متصلة من الاستنارة التي تؤدي للإيمان الذي يؤدي بدوره لمزيد من الاستنارة، لا يوجد تسلسل واحد للدخول في هذه الدائرة يسير فيه كل الناس، فكل واحد خبرته مختلفة عن الآخر، أي أن كل واحد يدخل هذه الدائرة من نقطة خاصة به.

الشك والبناء

بالرغم من أن الهدف اللاهوتي البعد حداثي هو بناء عالم المعنى من خلال تفسير الرموز المسيحية، إلا أننا ونحن نفعل ذلك، لا نريد أن ننحي جانباً الوعي الحداثي. في الثلث الأخير من القرن العشرين، ظهر شكل حاد من الوعي الناقد، وهو مدرسة التفسير من خلال الشك والتي تزعمها اللاهوت النسوي Feminist hermeneutic of suspicion معتبراً أن سيطرة الرموز الذكرية مثل: الله الآب، الملك، الرب وغيرها، كان لها آثر في تقوية النظم الأبوية الذكرية في المجتمع.

يدرك النقاد النسويين أن اللاهوتيين لا يرون الله ذكراً، ولكنهم يرون أن المشكلة لا تكمن في الفهم اللاهوتي النظامي بقدر ما هي في الممارسة الروحانية تحت تأثير هذه الرموز الذكرية. لذلك يرى هؤلاء النقاد أن اللاهوتي يحتاج إلى تفسير نقدي يميل للشك لتنقية التفسير اللاهوتي لهذه الرموز من التحيزات الأبوية.

كيف يمكننا أن نفعل ذلك؟

بعض من اللاهوتيين النسويين مثل Sally McFague اقترحت إضافة بعض الصور البلاغية الجديدة مثل الله كأم، الله كحبيب، الله كصديق. لكن الخطورة هنا هي أن نستخدم خبراتنا الشخصية في خلق رموز تقف بجانب الرموز الكتابية وهذا يعرضنا لأن "نخلق إلها ًعلى صورتنا نحن".

نحن نستطيع أن نكتشف ونوضح الصور الأنثوية عن الله في الكتاب المقدس من خلال التركيز على صفات الله الأنثوية مثل الرحمة والاهتمام والرعاية والأمومة ورموز نساء الإيمان القويات الموجودات في الكتاب المقدس.

إنني أؤمن أن اللاهوت المسيحي يجب أن يظل لاهوتاً تفسيرياً ـــ أي أنه يجب أن يظل مؤسساً على وظيفة تفسير الرموز الكتابية الأصلية.

من أهم مفاتيح التفسير البعد حداثي، الشك والثقة. إننا يجب أن نشك ونعترف أن الرموز الكتابية مثل الله الآب، والدينونة الإلهية، والسماء، والجحيم، يمكن أن تستخدم إما للقمع أو للتحرير. على الجانب الآخر يجب أن نثق بهذه الرموز أنها لا يمكن أن تخوننا و تقودنا إلى ضلال أو وعي زائف. إن كانت هذه الرموز من الله، فإنها سوف تقودنا لفهم أنفسنا، وعالمنا والله مما يقودنا إلى مزيد من النضوج والاكتمال.

هنا يثور السؤال، هل مصدر القمع والتسلط هو من الرمز الكتابي الأبوي أم من الرموز والأشكال الإنسانية للأبوة المشوهة غير المبنية على الفهم والاحتواء والعلاقة والمحبة المضحية؟ هل المشكلة هي في الرمز أم فيمن استخدم الرمز لتبرير قمعه وتسلطه؟ النقطة المحورية في لاهوت الثالوث هو توصيل رسالة أن جوهر الله هو الحب والعلاقة بين شخصيات متساوية في القيمة ومتنوعة في الأدوار دون ترتيب أو تسلسل سلطة. هذا اللاهوت يجب أن ينعكس على الخبرة الروحانية والدينية المسيحية وبالتالي على العلاقات الإنسانية وتخدم قضايا العدل في المجتمع، فتكون الأسرة والمجتمع انعكاسا لهذه الطبيعة الإلهية. لكننا يجب أن نُسلَّم أنه مع أمكان تحقيق هذا الهدف اللاهوتي- الروحي – الاجتماعي، وارد أيضاً حدوث العكس وهو أن تستخدم الرموز بطريقة تعسفية تُسقط على الرموز الإلهية صور الظلم والقهر وتشوه العلاقات الموجود في الأسرة والمجتمع الإنساني الساقط.

إذا اعترفنا أن كل الرموز يمكن أن تستخدم إما للشفاء أو للجرح، فهذا يضع أهمية كبيرة على دور اللاهوت في تفسير الرموز بصورة مستمرة ليس فقط لتوضيح التفسير الشافي للرمز، وإنما أيضاً لكشف وفضح الاستخدامات المشوهة للرمز في إطار تنقية الممارسات الروحية ولغة الخطاب الديني من تداعيات التفسيرات التعسفية للرمز. فكلما يستخدم رمز الله الآب أو وصية الخضوع للزوج أو الأب في صورة تروج لسيادة الذكورة في الكنيسة والأسرة والمجتمع، على اللاهوت أن يعيد لرمز الأبوة نقاوته من خلال تفسيره من منظور الاحتواء والرعاية والتضحية والفداء. أيضاً وصية الخضوع، لا يحب تركها هكذا جامدة بلا شرح لاهوتي، مما يعرضها للاستخدام بكل الصور الممكنة وبالتالي يفتح الباب لاستخدامها لتبرير العنف والقهر والظلم.

إن كانت وصية الخضوع الموجهة للزوجة موضوعة في نفس الفقرة التي توصي الزوج بالمحبة لذلك لا يمكن الكلام عن وصية الخضوع دون وضعها في إطارها المتزن مع وصية المحبة. فخضوع الزوجة للزوج لا يمكن تبريره إلا في إطار خضوع المحبة. بحيث ينتفي وجوب الوصية الأولى بانتفاء الوصية الموضوعة معها في اتزان جدلي. نلاحظ أن هذا الاتزان الجدلي موجود في وصايا كثيرة: " أيها الأولاد أطيعوا أولادكم في الرب... أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم، لئلا يفشلوا." أعتقد أن أول فشل يفشل فيه الأولاد إذا تعرضوا للغيظ والاستفزاز من آبائهم هو أنهم يفشلون في طاعة هؤلاء الآباء.

وهكذا عملياً، عندما توجد المحبة، توجد رغبة في كل من الطرفين في الخضوع لبعضهما البعض بسبب المحبة وليس بسبب السلطة. المحبة تخلق خضوعاً متبادلاً غير سلطوي، وهذه نفس صورة الخضوع لله المرموز له بصورة الآب والابن ‘ــ فالله الآب الذي يطالبنا بالخضوع، هو نفسه الله الابن الذي وضع نفسه وأطاع حتى الموت!

هذا بالتالي يقودنا إلى حقيقة أننا نحتاج إلى مقياس من نوع ما يعطي شكلاً للعملية التفسيرية وهذا المقياس يجب أن يأتي من الرموز الموجودة في الإعلان الكتابي وفي نفس الوقت يكون هو المرشد لعملية التفسير. ما هو هذا المقياس؟ في رأيي أن المقياس لكل ما نفعله هو الإنجيل. أي أن الإنجيل هو المقياس الخارج من الكتاب للحكم على الكتاب وتقنين تفسير رموزه. هو المقياس الذي يرينا صورة اتزان الذكورة والأنوثة في شخصية المسيح وصورة اتزان الأبوة والبنوة في حدث المسيح الكفاري.

إنجيل يسوع المسيح كمقياس

إذا تصورنا أن اللاهوت النظامي المسيحي مثل "عَجَلة"، نجد أن مركزها هو الإنجيل. هذا المركز يحكم على كل مصادر اللاهوت المختلفة كالكتب المقدسة والتقليد و الخبرة المسيحية والمنطق العام. كما أن اللاهوتي يمكنه أن يستمد أيضاً من الفلسفة وتاريخ الأديان والعلوم الاجتماعية والطبيعية والأدب القديم والحديث والفن وكل مصادر المعرفة والخبرة. ما الذي ينظم كل هذه المصادر في منظومة واحدة للاهوت المسيحي، خاصة أن كل منها ربما يتبنى رؤية مغايرة للعالم. في رأيي أن الذي يقوم بذلك هو الإنجيل.

ما هوالإنجيل؟

الإنجيل هو رواية قصة يسوع مع التأكيد على دلالتها الخلاصية. من عظات بطرس وبولس في سفر الأعمال، نرى الرسالة المسيحية المبدئية ملخصة في النقاط الأربعة التالية:

1) تحقق المواعيد والنبوات العبرانية في العهد القديم

2) الموت الظالم للقدوس البار يسوع

3) القيامة من الأموات

4) غفران الخطايا

إن دلالة قصة يسوع هي أنها تعلن خلاصنا. ويمكننا أن نعبر عن هذه الدلالة بصورة ثلاث موضوعات محورية في العهد الجديد وهي الإنجيل كخليقة جديدة، و كتبرير، وكإعلان.

الإنجيل كخليقة جديدة

تعد قيامة يسوع من بين الأموات عنصراً رئيساً في الإنجيل، وهكذا فإن الإنجيل ينقل رسالة أن المستقبل الإلهي (الدهر الآتي) حاضر روحياً الآن وهذا يُعطي لنا رجاءاً وسلاماً للذهن. في المسيح، انتصر بر الله ــ وبر الله أو عدالة الله هو مفهوم محوري في العهد القديم يعند أعلى قيمة في الوجود، والمسيا هو الملك الذي يحكم بالبر والعدل والرحمة، يحمي الفقير والأرملة واليتيم.

أما علامة مجيء هذا الدهر الآتي، فهي قيامة يسوع المسيح الذي هو باكورة الراقدين، بكر من الأموات والذي تعلن قيامته حلول هذا الدهر ولو روحياً ومرحلياً.

في رسالة كورنثوس، يقدم بولس الرسول الثنائية اليهودية الأفقية (هذا الدهر ــ الدهر الآتي) في مواجهة الثنائية الهيلينية الرأسية (الروح ــ المادة) وذلك من خلال التأكيد على قيامة الجسد وأن الخلاص ليس هو الخلاص من المادة وإنما تحول وفداء كل الخليقة و انتصارها على الموت.

انتصار القيامة هو إذاً تجسيد مبكر لما سوف يأتي بعد ذلك وهو النظام الجديد للخليقة New order of creation ورسالة الإنجيل بما فيها من تأكيد على القيامة، تقول أن هناك أساس لرجائنا في تحوُّل العالم الذي ضلّ، وإنه من خلال الإيمان بالمسيح، تصبح قوى الخليقة المستقبلية وعدالة حكم الله المستقبلي جزء أصيل من حياتنا اليومية. " إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً." (2كو 5: 17).

الإنجيل كتبرير

التبرير هو الطريقة التي بها يخلصنا الله، وبولس الرسول يقول بوضوح أن قوة الله للخلاص والتبرير هي بالإنجيل. " إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس بل بإيمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضاً بيسوع المسيح لنتبرر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس." (غل 2: 16)

إن بر الله الذي المسيح هو التجسيد له، لا يزال بالنسبة لنا رجاءاً أخروياً، فنحن لا نزال خطاة مشاركين في انعدام البر في ذلك النظام القديم. ولكن في المسيح، نحن شركاء في البر القادم الذي يمثله النظام الكوني الجديد. لذلك فإن هذا التبرير هو لنا الآن " إذ قد تبررنا بالإيمان، لنا سلام مع الله." (رومية 5: 1-5 ) و ننتظره في المستقبل أيضاً " فإننا بالروح من الإيمان نتوقع رجاء بر." (غل 5:5) إذاً البر الذي يقدمه لنا الإنجيل هو عطية نأخذ عربونها هنا بالإيمان لكنها لا تكتمل إلا في الدهر الآتي.

يسمي يواقيم هيرمياس هذه الحالة ante donation أي العطاء المسبق أو العربون. بدلاً من هذا التعبير أنا (تيد بيترز) أفضل تعبير Prolepsis الذي يشير إلى أن الحقيقة المستقبلية موجودة ههنا من قبل الوقت. نحن من خلال الإيمان، مبررون بسبب مشاركتنا في الاستكمال النهائي القادم لعدل الله الكامل.

إننا لذلك مدعوون لأن نعمل من أجل العدل في عالم ظالم ومهما عملنا بجد من أجل زيادة مساحة العدل في هذا العالم، لن نصل إلى العدل التام، فنحن أبرار في المسيح وخطاة في أنفسنا منتظرين إتمام البر في المستقبل.

الإنجيل كدعوة

الإنجيل هو تقرير وإعلان النعمة الإلهية. ذلك الإعلان الذي يؤسس بر الله بالإيمان ويفتح الباب أمام الخليقة الجديدة. الإعلان جزء لا يتجزأ من الإنجيل.إننا لا نخبر بالإنجيل وإنما الإنجيل لا يصبح إنجيلاً إلا إذا أُخبِرَ به. قوة الإنجيل هي في إعلانه، وإذا لم نفتح أفواهنا بالإنجيل فإنه لن يتحرك للأمام وإنما يظل قوة كامنة محبوسة.

مركز اللاهوت المسيحي إذاً هو الإنجيل

والإنجيل هو رسالة:

          • خلق جديدة بقيامة المسيح
    • تبرير حالي يتم بالكامل في المستقبل
    • مناداة مستمرة وليس عقيدة محفوظة

أين نجد الإنجيل؟

في الكتاب المقدس

الكتاب المقدس كمصدر ومقياس

اللاهوت هو تفسير الرموز المسيحية والإنجيل هو مقياس هذا التفسير الموجود في الكتاب المقدس. أي أن الكتاب المقدس يحمل بين طياته قانون ومقياس تفسيره. كما أشرنا سابقاً هناك أربعة مصادر للإيمان المسيحي: الكتاب المقدس، والتقليد، والخبرة المسيحية والمنطق. يعتبر البروتستانت الكتاب المقدس هو المقياس والمصادر الثلاثة الأخرى تابعة له ومعتمدة عليه، أما الكنيسة الكاثوليكية فتعتبر أن الكتاب والتقليد معاً هما مقياس الإيمان المسيحي. إن كان الإنجيل هو المعيار الجوهريmaterial norm فالكتاب المقدس هو المعيار الصياغي formal norm أو الشكلي للاهوت. فإن كان الطفل مثلاً هو الجوهر، فالمهد الذي يرقد فيه الطفل هو الإطار الصياغي الذي يحتوي الطفل، وهذا يعكس ما قاله لوثر عن الكتاب المقدس أنه "مهد المسيح" إي المكان الوحيد الذي تجد فيه المسيح. إذاً الكتاب المقدس هو المكان الذي يذهب إليه اللاهوت دائماً لتمييز رسالة الإنجيل.

الكتاب المقدس كقانون

الكتاب المقدس يعمل كقانون للحكم بين الخطأ والصواب وهو الذي يجعلنا نحكم عن أي مفهوم لاهوتي بالسؤال:" هل هو كتابي؟. هذا ما أكده ا لآباء الأوائل مثل كليمندس السكندري ق 3م ثم تلميذه أوريجانوس، ثم عاد المصلحون للتأكيد عليه. لكن من هو الذي لديه الحق في تقديم التفسير الرسمي للكتاب؟ أصر المصلحون مثل جون كالفن على أن السلطة المطلقة هي للكتاب فوق كل إقرارات المجامع الكنسية المختلفة. هذا التقرير لا يحل المشكلة إذ أنه يبقى سؤال التفسير، فالكنيسة الشرقية مثلاً أكدت على أن التفسير أمر روحي وصوفي وفائق للطبيعة، معتبرة أن القراءة الطبيعية للكتاب سوف تنشئ تفسيراً طبيعياً، إلا أن المطلوب هو قراءة فائقة للطبيعة للحصول على المعاني الفائقة للطبيعة. هذا بطبيعة الحال أدى إلى تحميل النصوص فوق ما تحتمل و إلى قصر مهمة التفسير على النخبة من الآباء الروحيين.

الكتاب المقدس كتقليد

يمكن استخدام كلمة تقليد للإشارة إما إلى سلطة عقائدية أو إلى نمو حيوي. إذا نظرنا للتقليد كنمو حيوي فإن هذا يفترض أن بذرة الإنجيل متى زرعت في أي ثقافة أو مجموعة بشرية فبالطبع سوف تنمو وتتطور وتجد لنفسها صيغاً مختلفة للتعبير حيث تقوم الجماعة البشرية بتمثل الإنجيل في ثقافتها وخلفيتها الحضارية وطرق تفكيرها ومنطقها في صورة عقائد وإقرارات إيمان. لكن هذا التقليد يجب أن يكون أداة لزيادة الفهم ليس مجرد مزيد من العقائد للالتزام بها كما يذكرنا الكاردينال نيومان في القرن التاسع عشر أن مصب النهر لا يمكن أن يرتفع فوقت منبعه. التقليد إذاًَ هو محاولتنا لتمثل الإنجيل ولا يجب أن يتحول إلى صيغ نلتزم بها بجمود. نيأين

من الصعب رسم الخط الذي عنده ينتهي الكتاب ويبدأ التقليد، فدراسة تاريخ الكنيسة المبكر يعلمنا كيف كان نوع من التبادلية موجوداً بين النص والتقليد. هذه التبادلية تمنع اعتبار النص مقياساً بمعزل عن التقليد حيث أن الكنيسة هي نفسها التي أقرت أي من النصوص تعتبر قانوناً سواء من العهد القديم أو الجديد وذلك من خلال تاريخ وتطور إيمانها واعترافها. بالنسبة للعهد الجديد، نجد أن الأناجيل الأربعة ورسائل بولس الثلاثة عشر تلقت استحساناً في الكنيسة حتى وضعت على قدم المساواة مع نصوص العهد القديم في الفترة بين 170 و 220 م. أما كتابات العهد الجديد الأخرى فأصبحت قانونية في مرحلة تالية مثل العبرانيين ورسالة يهوذا ورسائل بطرس ويوحنا ا لثالثة وسفر الرؤيا. بحلول القرن الرابع (367م.) كانت الأسفار القانونية كما نعرفها الآن قد تم إقرارها. وهكذا تقابلت السلطة التلقائية مع السلطة الرسمية. نستطيع إذاً أن نقول أن النصوص قد شكلت التقليد الذي بدوره قد حكم على قانونية هذه النصوص التي بدورها تحكم التقليد. أي أن النص مبدئياً قدم خبر الإيمان وبذرته التي نمت وترعرعت في تربة الكنيسة ونشأ منها التقليد والاختبار الكنسي الصحيح الذي أنشأ وعياً إيمانياً روحياً قادراً على الحكم على أي من النصوص يعتبر قانونياً أم لا، ليستمر في تقديم نفس بذرة الإيمان الصحيح إلى أجيال تالية. هذا لا يكون ممكناً بدون وجود الروح القدس الموحي بالكلمة والعامل في الكنيسة إلى الأبد.

وحي الكتب المقدسة

في عصر ما بعد الإصلاح، حاول البعض وضع سلطة الكتاب المقدس في موضع مقابلة وتضاد مع التقليد. على اعتبار أنه هو الموحى به. وهذا يعني ضمناً أن الكتابات الأخرى وكل جوانب التقليد والحياة الكنسية ليست موحى بها. وهكذا أصبح الكتاب المقدس وحده هو قانوننا. قانون إيمان وستمنستر 1643 أعلن أن كتب العهد القديم المكتوبة بالعبرية وكتب العهد الجديد المكتوبة باليونانية هي الكتب " الموحى بها مباشرة من الله والمحفوظة بعنايته نقية عبر كل العصور."

كيف نعرف أن الكتاب الموجود بين أيدينا موحى به بهذه الطريقة ويحمل هذه السلطة المطلقة؟ بشهادة الروح القدس الداخلية التي تكلم عنها كل من أوريجانوس وجون كلفن. هكذا فإن المجتمعين في وستمنستر استطاعوا من خلال شهادة الروح القدس الداخلية أن يقتنعوا تماماً بقانونية وسلطة هذه الأسفار. وهكذا في وستمنستر ظهرت عقيدة الوحي الروحي المزدوج للكتاب المقدس: وحي الروح القدس المباشر لكتابه ثم شهادة الروح القدس في قلوب قراءه.

لكن عبر الزمن، أدت عقدية الوحي المباشر هذه إلى فكرة عصمة الكتاب المقدس. تكلم المجتمعين في مؤتمر نيوهامبشير المعمداني بقوة وفصاحة قائلين: " إننا نؤمن أن الكتاب المقدس قد كتبه رجال موحى لهم من الله، وهو الكنز الكامل للتعليم السماوي؛ كاتبه هو الله والخلاص هو هدفه والحق الذي لا يشوبه الباطل هو جوهره ومحتواه." وفي القرن العشرين أصبح هذا من الأصول الخمسة التي تبناها المجمع العام للكنيسة المشيخية سنة 1910 وهو: وحي وعصمة الكتاب المقدس.

وخلال الحوار والجدل بين الأصوليين والحداثيين بين المشيخيين والمعمدانيين خلال عشرينات القرن العشرين. أصبح الإيمان الأصولي هو أن: كل الكتب المقدسة القانونية للعهدين القديم والجديد، ككل وفي كل جزء منها، هي كلمة الله الموحى بها والمعلنة والمعصومة من الخطأ والقانون الوحيد للإيمان والأعمال.

نلاحظ أن عبارة " ككل وفي كل جزء منها" تشير إلى ما يسمى بالوحي المتساوي plenary inspiration أي أن الوحي منتشر بالتساوي بين كل أجزاء الكتاب المقدس. وهذه العقيدة تسود على الفكر الأصولي ومعظم أجزاء المسيحية الإنجيلية المحافظة في العالم.

شرح الرموز اللاهوتية المسيحية


اللاهوت المسيحي ما هو إلا شرح للرموز الموجودة في الكلمة المقدسة، لكي تصبح ذات صلة بالإطار الذي يعمل فيه اللاهوتي. ممارسة اللاهوت هو أن تفكر الكنيسة فيما تؤمن به, وبالتالي يؤثر هذا الفكر في حياتها وسلوكها اليومي. ما هو المنهج الذي يسير به اللاهوت لشرح الرموز المسيحية؟ ما هي الأسئلة الأساسية التي نسألها للإيمان وما هي الطرق التي نسلكها والتعريفات التي نحددها والأهداف التي نقدمها لتفسير هذه الرموز؟

إننا نؤمن أننا إذا سألنا أسئلة مخلصة عن الحقيقة واتبعنا بحثاً منطقياً، فإن الله سوف ينير نفوسنا. إذاً فالهدف من المنهج في اللاهوت هو التقدم نحو فهم شامل من خلال البحث والتحليل العلمي مع محبة الحق أكثر من النفس.

التفسير الذي سوف نقدمه هنا للرموز اللاهوتية هو التفسير الإنجيلي evangelical explication وهو يتبع ثلاث خطوات من الفهم الأولي المصمت، إلى الشرح التحليلي، ثم نحو البناء اللاهوتي. الجذور اليونانية لكلمة منهج Method هي meq odos أي "مع طريق" أو من خلال طريق. كما أن كلمة منهج بالعربية تعني أيضاً طريق ينهجه الإنسان أي يتخذه.

الرمز والواقع

منذ وقت الإصلاح و ا للاهوتيون التابعون لعقيدة ريتشارد هوكر وجون وسلي يعترفون بأربعة مصادر للإيمان:

- الكتب المقدسة

- التقليد

- الاختبار الشخصي

- المنطق

باعتبار أن الكتب المقدسة هي المصدر الأولي والباقي مصادر ثانوية. في هذه الدراسة سوف أضع الرموز الكتابية في موضع الكتب المقدسة. لأنه في رأيي أن هذا التعبير يعطي الأولوية للكتاب المقدس من ناحية، وفي الوقت نفسه يكشف عن الاعتماد المتبادل بين هذه المصادر الأربعة عبر التاريخ المسيحي.

أولاً، هناك تقليد "رمزي" للحديث عن الله حتى قبل الكتب وبعدها. كما أن هذه الرموز مرتبطة بخبرة أصيلة مرتبطة بتعبير الله عن نفسه كما أن هناك أيضاً دفع داخلي في الإنسان نحو المَنطَقة أو تفسير هذه الرموز.

- الإنسان يبحث عن الله

- الله يعلن نفسه للإنسان

- الإنسان يحاول فهم إعلان الله عن نفسه

الرمز كمنشور ضوئي

الرمز هو أداة للتعرف على الحقيقة Symbols are reality detectors الرمز يعمل كمنشور يحلل عناصر الضوء الأبيض التي هي موجودة ولكنها غير منظورة بدون المنشور. هكذا فإن الرموز تقع عند التقاء الحياة اليومية العادية مع الأسئلة الوجودية التي نجد أنفسنا بعدها إما أمام الله أو أمام العدم Metaxy of life هذه هي نقطة الالتقاء بين المعرفة الإنسانية المحدودة والحقيقة غير المحدودة.

تقف الرموز مهتزة فائضة بالحياة عن نقطة التوتر بين الظاهر والخفي، بين العادي و المتسامي. الحقائق المتسامية عن العالم، لا يمكن أن تقدم له إلا في صورة رمزية. فالإنسان لا يرى الله كما هو ويعيش، لابد لله أن يتخذ شكلاً بسيطاً " أي يتجسد". أيضاً أفكاره وتعاملاته الأبدية المطلقة، يجب أن تأتي لنا في عالمنا النسبي المتغير المتطور في صورة رمزية، قادرة على أن تحتمل تفسيرات متعددة في العصور المتتالية دون أن تفقد معناها الجوهري. لذلك فإن هذه الرموز لا تموت لأنها هو وحدها التي تحررنا من أسر الحياة العادية وتنقلنا برفق من الحياة في هذا العالم المنظور إلى الحياة في العالم الآخر دون أن نترك هذا العالم الحاضر.

أربعة مستويات للوظيفة الرمزية

1) الرموز المادّية Physical Symbol

بعض من الرموز التي تنتمي للفهم المسيحي عن النفس والعالم تقع على الحدود بين التعبير اللفظي والتعبير خارج اللفظي. لعل الصليب هو الرمز المادي الأول للمسيحية. لا يذكرنا الصليب فقط بالحدث التاريخي لصلب المسيح، ولكنه رمز لخلاص الله المتجدد، كذلك الخبز والخمر في التناول وماء المعمودية. هذه الرموز المادّية تسمى وسائط النعمة وهي تمدنا ببؤرة مادية تدور حولها كل العبادة المسيحية. أوضاع الجسد في العبادة أيضاً رموز مادية، الأماكن الجغرافية رموز مادّية لدرجة أقل كثيراً، الشموع، الأيقونات، الأشخاص، كالبابا والأسقف وغير ذلك.

2) الرموز البلاغية Metaphorical Symbol

هي الاستعارات المكنية المرتبطة بالخبرة الأصلية التي أدت إلى الإيمان المسيحي. " كلمة الله " ، " ملكوت الله"، "حمل الله". هذه كلمات ليست لها وجود حرفي ولكن كل كلمة تشير إلى حقيقة مجردة خاصة. أيضاً أقانيم اللاهوت ــ الآب، والابن والروح القدس. ليس ا لله أباً حرفياً ولا ابناً و لكنها رموز بلاغية تشير إلى حقيقة يتم اختبارها وإعلانها بصورة أصيلة في خبرة الإعلان الأصلي المدمج والحاوي لكل هذه ا لمعاني. توجد ثلاث عناصر هامة في التركيب العام للاستعارة المكنية نحتاجها لفهم الرموز المسيحية اللغوية وهي:

- الجدل القائم بين القرابة والتضاد في الصورة البلاغية

- البصيرة الجديدة التي تقدمها الصورة البلاغية

- احتياج الصورة البلاغية للتفسير.

بالقرابة أقصد قدرة الصورة البلاغية أن تأتي بأمرين معاً من خلال إدراك بعض الشبه والصفات المشتركة بينهما. الفرق بين التشبيه والاستعارة المكنية هو أن التشبيه يظهر أن شيئاً ما يشبه شيئاً آخر، أما الاستعارة المكنية فهي تجمع أمرين عادة ما لا يجتمعان حرفياً. الاستعارة المكنية تخلق إذاً قرابة وسط الاختلاف. فعبارة أن المسيح هو الراعي الصالح، استعارة مكنية لأن المسيح لم تكن الرعاية مهنته أبداً، فهو ليس راعياً بالمعنى الحرفي للكلمة ولكن هذه الاستعارة تشير إلى أمر خاص مشترك بين المسيح والراعي الصالح وهو اهتمامه بمن يتبعه. أيضاًَ رمز المسيح "الابن" أو الكلمة فالله لم يتزوج وينجب ابناً ولكن المقصود هو تعبير الله عن نفسه للإنسان فكلمة الإنسان تعلن طبيعته وعقله وتفكيره، و ابن الإنسان يحمل اسمه وصورته وشخصيته.

أما البصيرة الجديدة التي تقدمها الاستعارة، فهي أنها تقدم لنا يسوع بصورة جديدة. استعارة الراعي الصالح تعلن أنه يهتم وليس كالأجير الذي لا يهتم. هذا الرمز البلاغي لم يكن له تأثير على صناعة الصوف بطبيعة الحال، وإنما كان له تأثير على الكنيسة والقيادة فيها، حيث أن القائد الحقيقي يجب أن يتبع هذا الرمز، فيكون راعياً صالحاً يهتم بالشعب. استعارة الابن، تقدم لنا يسوع كالمعبر تماماً عن مشيئة الله وطبيعته، وهذا يجعل الله يقترب منا ونفهمه. من خلال اهتمام يسوع بالضعفاء والمهمشين الذين لم يكن رجال الدين اليهود (الذين بحملهم للكتب المقدسة وتفسيرها كانوا يمثلون الله للشعب) يقومون به. هذا نقل لنا بثقة أكبر طبيعة قلب الله واهتماماته.

هذا يأتي بنا إلى الصفة الثالثة للرمز البلاغي وهو احتياجه للتفسير. الاستعارة المكنية تحمل مستويين للمعنى ــ المعنى الحرفي والبصيرة الجديدة معاً في حالة من التوتر الخلاّق بحيث إذا تخلينا على أحد من هذين المستويين نفقد الرمز البلاغي كله. لذلك فحتى بعد فهم المعنى المجرد، لا يمكن الاستغناء عن الشكل الحرفي. هذا على سبيل المثال يجعلنا لا نستطيع أن نتخلى عن استعارة "الابن" حتى بعد هجوم الإسلام عليها، ولكننا نحتاج دائماً أن نفسرها!

3) المفاهيم اللاهوتية Theological concepts

يعتبر المفهوم اللاهوتي، مستوى ثالث للرمز فهو يحتوي على الشكلين الرمزيين الأولين ـــ المادّي والبلاغي. فإن قلنا أن اللاهوت هو شرح الرموز، فإن شرح وتحليل الرموز المادّية التي في الكتاب المقدس قد أدى مع الوقت إلى ظهور مفاهيم لاهوتية مثل: الثالوث، الخليقة، العناية الإلهية، الخطية، النعمة، المصالحة، التبرير، التقديس وغيرها. هذه الرموز اللاهوتية موضوعة ليس للعبادة، وإنما للتفكير والتأمل. وبافتراض أن الرموز أبواب للوصول للحقيقة المتسامية، فإن المفاهيم اللاهوتية هي محاولات للدخول من هذه الأبواب أو استقبال ما يأتي إلينا منها. اللاهوت إذاً يخرج بمعاني مجردة من الأحداث التاريخية المادّية المحددة المرتبطة بالخبرة الإنجيلية الأصيلة، حتى يخرج منها بمبادئ عامة تتعلق بالواقع اليومي الذي نعيشه.

قد يعترض البعض بأن المفاهيم اللاهوتية تحد من المعاني اللانهائية التي تتدفق لنا من الرموز الكتابية، ولكن المفاهيم اللاهوتية ضرورة لتطبيق هذه المعاني المتسامية على الحياة اليومية.

لماذا إذاً ندعو المفاهيم اللاهوتية رموزاً؟ ذلك لأن عملية " الترميز" لا تزال مستمرة والثالوث مثال لذلك، فالثالوث ليس رمزاً أولياً (مادياً) مثل الصليب، ولكنه مفهوم لاهوتي نشأ خلال القرون الأولى عندما تأملت الكنيسة لاهوتياً في الرموز البلاغية المختلفة الموجودة في الكتب المقدسة مثل الله الآب، والله الابن والله الروح القدس. فعقيدة الثالوث هي إذاً مفهوم لاهوتي لفهم العلاقة الكامنة وراء هذه الرموز البلاغية، ولكن مع الوقت صار الثالوث نفسه رمزاً كالصليب. فإن كان الرمز الأوليّ هو لحظة إشراق عظمى في التاريخ، تفتح طاقة من النور بين الحياة هنا والأبدية التي لا يمكن التعبير عنها بمفاهيم بشرية أو بلغة قاصرة محدودة، فإن شرح وفهم وتحليل هذه الرموز وتحويلها إلى مفاهيم لاهوتية فكرية، ما هو إلا محاولة لمدّ هذا النور ليشمل مساحات أكبر من الحياة الإنسانية ليعطى لها معنى أكبر من المادي والمحدود، مع الوعي التام بأن هذه المحاولات والمفاهيم اللاهوتية سوف تظل أيضاً قاصرة عن أن تستوعب كل المعنى الذي تكشف عنه الرموز الأولية في الكتاب المقدس. على سبيل المثال، مفهوم الخلاص، مفهوم لا يستقصى فهمه، ولكننا عندما نحاول استيعابه نخلق مفاهيم لاهوتية عديدة مثل الفداء والتبرير والتقديس، محاولين أن نجعل من هذا الخلاص المتسامي حقيقة يومية في حياتنا ونمونا الروحي واعين أننا لن نستطيع سبر أغوار عمل الله في ا لكون وفينا مهما حاولنا ذلك.

3) العقائد وإقرارات الإيمان Confessional creeds

أما المستوى الرابع من المعنى الرمزي فهو مستوى العقائد وإقرارات الإيمان. العقائد هي منظومة من الرموز اللاهوتية موضوعة لتوضيح أفكار في مواجهة أفكار ومفاهيم أخرى مرفوضة. كان إقرار الإيمان الكنسي الأول هو: " يسوع رب" ووضع لكي تتمسك به الكنيسة في مواجهة شعار آخر هو “قيصر رب" ثم بعد مجمعي نيقية والقسطنطينية أصبح إقرار الإيمان هو: "واحد مع الآب في الجوهر." للرد على شعار الآريوسية: " كان هناك وقت لم يكن موجوداً." There was when he was not

 
google-site-verification: google582808c9311acaa3.html