نحو لاهوت بعد حداثي
إن دافعي الأساسي من تناول البعد حداثة ليس الترويج لكل ما هو بعد حداثي وإنما من منطلق التأطير Contextualization وفيما وراء الأهمية الإطارية توجد أيضاً أهمية تكوينية تمكن اللاهوت المسيحي في الوسط البعد حداثي المهتم بالكل، من أن يقدم تطبيقات تشمل كل نواحي الحياة كفهم الله والخليقة والمستقبليات والأخلاقيات وغيرها. في الصفحات القادمة أرجو أن أشرح كيف يمكن أن يحدث ذلك من خلال تنمية ما يمكن أن نسميه الوعي المستقبلي Proleptic consciousness ويعني الوعي المتوقع لحدوث اكتمال مستقبلي مبني على وعد الله وأمانته.
الإنجيل هو وعد للمستقبل وليس وعداً فقط، بل هو أيضاً يجسد المستقبل الذي وعد به الله كل الخليقة قبل حدوثه، وذلك من خلال الخليقة الجديدة في المسيح. أعتقد أن الالتزام المسيحي المحوري هو أن يكون الإنجيل هو المفتاح لفهم الواقع وهذا معناه أن كل ما هو حقيقي هو متوجه نحو المستقبل لأن الإنجيل وعد مستقبلي بالخلاص.
- فقط في ضوء الكل يمكن أن نفهم الأجزاء ونفهم أنفسنا.
- الكل مستقبلي وهو في حالة مستمرة من التحقق والتكشف " المفهوم المستقبلي لملكوت الله"
- بالنظر إلى يسوع (الكل المتجسد قبل الوقت) يمكن أن نفهم أنفسنا ونتكامل كأجزاء في هذا الكل.
بالطبع فإن الكل المُعَيَّن من الله لم يتحقق بعد ولا يوجد بعد ولكنه قد أُعلن عن نفسه. لقد (تجسد) قبل الوقت من خلال حياة وموت وقيامة يسوع الناصري. لذلك فإن مصير الإنسان يمكن النظر إليه بالنظر إلى يسوع ومن خلاله نستطيع أن نرى رؤية واضحة للكل ونضع أنفسنا فيه كأجزاء متكاملة معاً.
ثلاث مراحل على درب الإيمان
يمكننا أن نفكر في الإيمان المسيحي عبر ثلاث مراحل:
- ما قبل الحداثة
- الحداثة
- ما بعد الحداثة
والمثير للاهتمام في التاريخ أنه لا يترك شيئاً خلفه وإنما هو تراكم لخبرات ورؤى متتالية مضافة إلى بعضها البعض. وكما يمكن أن نرى هذه المراحل كمراحل تطورية للفكر الغربي، يمكن أن نراها أيضاًُ كمراحل تطورية لإيمان وحياة الأفراد وخطوات على طريق تَشَكُّل وعيهم الإنساني. لذلك أقترح أن نتكلم عن الإيمان على ثلاث مستويات:
1) التركيب البسيط "الساذج" للعالم Naïve world construction
2) التفكيك الناقد Critical deconstruction
3) إعادة التركيب البعد نقدية Post-critical re-construction
ملاحظات:
- لا يعتبر الإيمان البسيط أقل شأناً من الإيمان الناقد
- هذه المراحل ليست تطورية بصورة مطلقة ولكن يمكن أن يكون الفرد في أكثر من مرحلة في نفس الوقت.
- يجب علينا أيضاً مقاومة الإغراء باعتبار الحاضر هو المطلق متجاهلين إشراقات الحقيقة في الماضي وننغلق عن تطور أو تجليات الحقيقة التي يمكن أن تحدث في المستقبل.
- يمكن للإيمان المسيحي أن يكون حقيقياً ومشبعا في أي مرحلة من المراحل ولا يجب على الكنيسة أن تحاول أن تنقل أي إنسان نقلاً تعسفياً من مرحلة إلى أخرى وإنما مهمة الكنيسة هي إعلان الإنجيل وتشجيع الإيمان ويمكنها أن تنقل هذا بأفضل صورة عندما تضع في اعتبارها سلامة واكتمال كل مرحلة من مراحل الوعي.
التركيب الساذج للعالم Naïve world construction
إنها المرحلة التي نعيش فيها في انسجام بسيط مع رموز عالم المعاني الخاص بنا. تتميز هذه المرحلة بالإيمان المباشر غير الناقد وبيئة من المعاني فيها كل شيء منسجم مع الآخر دون صراع. إنه السباحة اليومية في تيار اللغة والتعبير قبل أن يختبر الإنسان وعياً ناقداً فيه يخرج من هذا التيار ويحكم عليه من أرض يابسة، أي ينظر إليه من الخارج بصورة موضوعية. هل هذه الأمور هكذا بالحقيقة؟
في هذه المرحلة نفترض أن الأفكار التي في أذهاننا والكلمات التي في أفواهنا تطابق واقع العالم بالتمام. الواقعية الساذجة Naïve Realism هذا ما يحدث مع الأطفال الذين يولدون في أسر مسيحية. يفترضون وجود الملائكة الحارسة والتفسير التدبيري لكل مأساة والتفكير في الأقارب المنتقلين أنهم الآن في السماء ينعمون بالفرحة وينتظرون الدينونة الأخيرة. إنها الوحدة الساذجة مع العالم الرمزي.
أساسي في هذا النوع من الحياة أن يكون هناك توتر ولكنه ليس توتراً فكرياً وإنما هو توتر أخلاقي. في صورة ثنائية بين الخير و الشر. الله والشيطان. القضية الوجودية في هذه المرحلة هي قضية درجة الالتزام الشخصي. مقدار الإيمان. هل أنا شجاع بما فيه الكفاية لكي أموت من أجل ما أؤمن به؟ الصراع هنا هو بين الإيمان وعدم الإيمان.
ما هو دور اللاهوت في هذه المرحلة؟ إنه بالضرورة بناء عالم المعاني الخاص بالفرد. بمعنى أنه سوف يسعى إلى تقديم، وإعادة تقديم، والتفكير من خلال الرموز الأولية للإيمان المسيحي من خلال الواقعية الساذجة و من خلال إعادة رواية القصص الكتابية وتلاوة العقائد، يقدم الحصيلة اللغوية التي بها يمكننا التعبير عن أفكارنا الداخلية ومشاعرنا الشخصية المرتبطة بصورة ذهنية عن الكيفية التي بها يعمل عالم الله.
كما سبق أن قلت أن التفكير على مستوى السذاجة الأولى له مصداقيته الخاصة فهو ليس بالضرورة ضد العقل أو غير أمين أو ضحل روحياً. إن إنجيل الخلاص حقيقي وذو معنى بالنسبة للأطفال والبسطاء من الكبار كما كان حقيقياً وذو معنى بالنسبة للقدماء وبالنسبة لأي شخص آخر. ولكن عندما يدخل الإنسان نار الوعي الناقد الممحصة فلا عودة للوراء واللاهوت، كما سوف نرى سوف يتعرض لكل من التحدي والإثراء على حد سواء.
التفكيك الناقد Critical deconstruction
ما قدمه لنا القرن السابع عشر والثامن عشر هو وعي يزداد في التمايز ويصنع هوة بين الشعور الذاتي الداخلي والعالم الموضوعي الخارجي وكذا الهوة بين العالم القديم (ما قبل الحداثة) والعالم الحديث فيما يتعلق بالتفسير والمعنى. بالنسبة للكتاب المقدس سمينا هذه الهوة، الهوة التفسيرية hermeneutical gap
لا نستطيع بعد الآن أن نعيش بسذاجة أو بساطة في عالم الكتاب المقدس الذي يتوقع دائماً تدخلات فائقة للطبيعة من ملائكة وغيرها وأن السماء تقع خلف الغيوم. باختصار، انقطعت علاقتنا الساذجة بالعالم الرمزي للكتاب. لم يعد العالم الحديث قادراً على رؤية الله في الطبيعة بنفس الطريقة التي كان يراه بها عالم قبل الحداثة، وإنما يرى أنها تسير وفق منظومة مغلقة من الأسباب والقوانين الطبيعية. لم يعد الله موجوداً إلا في عالم القيم والمثل والنسبية الثقافية.
ما الذي حدث لّلاهوت؟
قرر الليبراليون وورثتهم من الأرثوذكسيين الجدد والوجوديين أن يتركوا عالم ا لواقع الموضوعي تماماً لعلماء الطبيعة والخبراء العلمانيين ليتعاملوا معه كواقع متعادل من حيث القيم. Value-neutral reality وبالتالي تراجعوا للتعامل فقط مع العالم الداخلي للإنسان. تعاملوا مع عقائد مثل الخلق ونهاية العالم التي تفترض علاقة بين الله والعالم المادي، بصورة تعكس فقط الإيمان الشخصي. أصبحت قوة الله الخالقة والمغيرة منصبة فقط على الوعي الإنساني الفردي والقدرة على اتخاذ القرار الأخلاقي.
كانت النتيجة النهائية لذلك هو أن الرموز الأساسية للإيمان المسيحي لم تعد هي التي تنير العالم الأوسع. لم تعد عقيدة الخلق هي التي تثير وتشجع على فهم الأكوان والتطور البيولوجي. لم تعد عقيدة العناية الإلهية لها دور في فهم قوانين الطبيعة. لقد أصبحت العقائد المبنية على الكتاب المقدس تعيش في نطاق النفس الإنسانية كأقلية تعيش في أحياء محدودة مغلقة في مدينة الحداثة!
لم يكن التخلي عن العالم كله سيئاً، فخلال التحول إلى الذات الإنسانية، أعاد لاهوتيو الأرثوذكسية الجديدة واللاهوتيون الوجوديون تفسير الوصية الأولى وهي الإيمان بالله وحده "لا تكن لك آلهة أخرى أمامي." بصورة قوية وجديدة.
ما معنى أن يكون لك إله؟
وجودياً، إلهك هو ما يلتصق به قلبك وما تثق به وما تلجأ إليه وتخضع له هذا هو الأيمان. السؤال إذاً ليس إن كان لك إيمان أم لا فالإيمان يمكن أن يكون بالله أو أن يكون بصنم. السؤال هو هل لك إيمان بالإله الحقيقي؟
ومن هو الإله الحقيقي؟
يجيب اللاهوتيون المحدثون ولاهوتية الأرثوذكسية الحديثة فيقولوا أن الإله الحقيقي ليس جزءاً من هذا العالم كسائر الأجزاء الأخرى. إنه ليس كياناً يوجد بجانب كيانات أخرى في هذا العالم وكما أن الوصية كانت للعبرانيين ألا يصنعوا تماثيل منحوتة أو صوراً مرسومة لله، نفس الوصية لنا هي ألا نصنع صوراً فكرية لله، فأي صورة من أذهاننا تعد صنماً فكرياً نتعبد له ويضعنا في خطورة تغريب أنفسنا عن الله.
كيف يمكننا التغلب على هذا الاغتراب عن الله؟ من خلال الإيمان. الإيمان على مستوى الوعي الناقد يحتاج إلى أمرين: أولاً ، المؤمن يقبل حقيقة أن الله يتسامى فوق الكون. الله ليس حقيقة مثل باقي الحقائق. ثانياً ، ألمؤمن يدرك أنه بالفعل في علاقة مع الله فلا يستهدف إقامة علاقة مع الله بينما هذه العلاقة هي موجودة بالفعل.
بهذه الصورة الله ليس موضوعاً خارجياً وأي محاولة لاعتباره كذلك هي نوع من الوثنية وبهذه الصورة أيضاً يصبح الإيمان موضوعاً ذاتياً وهذا بطبيعة الحال يجعل الإيمان يتضمن عنصراً آخراً خلافياً Paradoxical ألا وهو الشك بصورة مستمرة. فإن كان الإيمان قراراً ذاتياً، كيف يمكن للمرء أن يتأكد أنه اتخذ القرار الصحيح؟ والإجابة على هذا السؤال هي أنه لا يوجد تأكد ! فالإنسان لا يستطيع أن يذهب إلى الله ليسأله إن كان اتخذ القرار الصحيح. لا يمكنك أن تذهب إلى الله لأنك لا تستطيع تحديد مكانه فلو كان ذلك ممكناً لأصبح الله صنماً!
كيف يمكن لذلك أن يكون إيمانا إذاً؟ هذا الإيمان ليس هو التصديق الساذج وإنما هو الإيمان والثقة فيما لا يرى ولا يمكن إثباته. إنه التكريس لحضور لا يمكن استقباله وهو يستند على فرضية كتابية أساسية وهي أن يسوع المسيح هو الحق (يوحنا 14: 6) و عندما نؤمن أن يسوع هو الحق فإن أي سعي حقيقي نحو الحقيقة لن يبعدنا عن المسيح. إذاً الغرض من الشك في التفكير الحديث هو خدمة الإيمان، والشخص الذي يشك بصدق هو الذي يعبر بصورة تبدو عكسية عن إيمانه. (أي أنه لا يشك إلا من يؤمن و لا يؤمن إلا من يشك، فمن لا يشك، يعبد صنماً) الشك المستمر هو الرفض المستمر لكل الأصنام التي من الممكن أن يصنعها تفكيرنا عن الله ومحاولاتنا المستمرة في جعل الله حقيقة ماسخة من حقائق عالمنا الباهت. الإيمان الحديث هو إيمان جسور يريد باستمرار أن يطيع الوصية الأولى ألا يكون له آلهة أخرى أمام الله وذلك من خلال الشك المستمر للقفز دائماً إلى مجال الغير معروف والغير قابل للمعرفة.
لكن بطبيعة الحال ، عدد قليل جداً من الناس يستطيع أن يعيش هذه الجسارة القاسية للإيمان الناقد التي يدعو إليها هذا اللاهوت. لأنه بالنسبة لكثير من المحدثين لم تطهر نار النقد المسيحية من أصنامها الفكرية فقط، وإنما للأسف، حرقت أيضاً الإيمان بالله الحيّ. الوعي الناقد غالباً ما يؤدي إلى الشك والاغتراب عن الرموز الدينية تماماً فتكون النتيجة هي العلمانية بدلاً من الإيمان الراديكالي الذي كان يهدف إليه اللاهوت الحديث.
دور اللاهوت على مستوى الوعي الناقد هو تدمير عالم المعاني بناء على الاستبصار بأن الله ليس في هذا العالم والإيمان الحقيقي به هو التوقف عن إيجاد أي أمان لنا في هذا العالم.
في الكثير من الكنائس بطبيعة الحال توجد مقاومة شديدة لهذا اللاهوت النقدي. لابد أن نتوقع ذلك لأن اللاهوت النقدي يشكل خطراً شديداً على السذاجة والموقف الدفاعي، لا يمكن تجنبه. الشكل الذي يتخذه الموقف الدفاعي غالباً ما يكون هو الأصولية والدفاع المستميت عن حرفية الكتاب المقدس. الأصولية إذاً ليست هي السذاجة أو البساطة الأولى وإنما هي رد فعل للوعي الناقد الذي جاء به القرنان السابع عشر والثامن عشر وهي محاولة عنيفة لاستبقاء عالم المعاني والرموز الذي يريد اللاهوت الحديث أن يدمره. لا يريد الأصوليون أن يسلموا عالم الأشياء و الموضوعات للعلمانية ولا يريدون أن يوجهوا إيمانهم إلى ما لا يمكن موضعته كما يدعوهم اللاهوتيون المحدثون. وفي دفاعهم المستميت هذا خاطروا بوضع إيمانهم في الموضوع الخطأ فوضعوا إيمانهم ليس في الله المتعالي وإنما في عالم معاني الكتاب المقدس. و من وجهة نظر المتحررين والأرثوذكسيين الجدد يعتبر هذا نوع من الوثنية في بعض الأحيان يطلقون عليها صنمية الكتاب المقدس bibliolatry الذي فيه يختارون معاني ورموز من هذا العالم بدلاً من الإيمان بالله المتسامي عن هذا العالم.
عندما يتعرض شخص ذو إيمان بسيط (ساذج) لهجوم أسلحة النقد الحديث فإنه يقف أمام خيارين: إما أن يعود ويدافع عن مواقعه ويتشبث بالنظرة القديمة للعالم أو أن يتقدم بقوة وعنف نحو الإيمان الناقد بالإله المتجاوز للعالم وللكتاب المقدس. وهكذا فإن الأصوليين يغازلون الوثنية لأنهم يميلون إلى السماح للكتاب المقدس، الذي ينتمي إلى هذا العالم، أن يكون موضوع عبادتهم وتكريسهم بدلاً من الله المتجاوز لهذا العالم و الذي يشير إليه الكتاب المقدس. هذا بالطبع ليس خطأ السذاجة الأولى ولكنه خطأ الأصولية التي هي نوع من الدفاعية.
إعادة التركيب البعد نقدي Post-critical Reconstruction
في واقع الأمر، يتركنا الوعي الناقد واللاهوت النقدي الحديث في صحراء اللامعنى الفوق ذاتية supra-subjective meaninglessness في هذه اللحظة من تاريخ الحضارة الغربية تتم دعوة اللاهوتيين للذهاب إلى ما أهو أبعد من العقل الحديث وإعادة تركيب صياغات للمعنى نابعة من رموز الحقيقة الإعلانية. الأصوات البعد حداثية تشكو من أن المحدثون قبلوا بفرح الفكرة الخاطئة بأن المعنى في الحياة هو بالضرورة ذاتياً تماما لكون الخطورة الشديدة التي تحملها هذه الذاتية الشديدة هي الوحدة subjective loneliness إذا أكدنا على أن المعنى تخلقه الذات ولا يوجد في العالم الخارجي أي معنى حقيقي، ستكون النتيجة أننا سوف نجد أنفسنا بمفردنا في عالم المعنى. أي أن الوعي الناقد من الممكن أن يتركنا تائهين في صحراء اللامعنى!
يكتب بول ريكور: " إننا نتمنى أن نسمع دعوة تنادينا مرة أخرى للعودة من صحراء النقد" ويحتج قائلاً أن ما نحتاجه هو تفسير الرموز القديمة ـ الرموز التي أتت إلينا من خارج ذاتيتنا وأن ندعها تعلمنا ونشاركها عالم معانيها ولكن كيف نفعل ذلك بدون العودة للسذاجة الأولى. وحتى إن أردنا لن نستطيع!
هذا هو الرهان الذي يراهن عليه بول ريكور. والرهان هو مخاطرة. في هذه الحالة وفي هذا الكتاب، نحن نخاطر ونقامر بأن التفسير الإيماني للإنجيل المسيحي سوف يكون أكثر إثماراً للحياة في هذا العالم من الاستنتاجات المتشككة التي ينتجها لاهوت الشك. سوف لا ننسى شكوكنا ولكننا سوف نستمر للأمام محاولين أن نفهم أنفسنا والعالم من حولنا في ضوء رموز الإعلان الإلهي. سوف نؤمن لكي نستطيع أن نفهم وما نسعى إليه الآن هو نسخة (بعد ديكارتية) لتعريف القديس أنسلم للاهوت وهو "إيمان يسعى للفهم" Faith seeking understanding
الرموز المسيحية هي محددات للواقع. إذ أنها تمكننا من مواجهة الحقيقة وتحديد معنى الحياة لذلك نحن نحتاج لهذه المخاطرة، نحتاج لمخاطرة الإيمان حتى يمكننا أن ننتبه إلى الإنجيل ونشترك في عالم المعاني الخاص به وندعه يتكلم إلينا. إذا تعاملنا مع الرموز المسيحية من على بعد باعتبارها ذات معنى فقط لثقافة أخرى وعصر آخر فإننا لن نستطيع أن نستمع لما تريد أن تقوله لنا اليوم. إننا بالمراهنة أن الإنجيل يمكن أن يكون ذو معنى لنا اليوم، نفتح أنفسنا على إمكانية بناء فهم جديد للذات وللعالم. التفكير البعد نقدي يتميز بالمشاركة الشخصية وبإعادة بناء العالم. إنه تكاملي وكلي.
عندما نسأل سؤالاً عن حقيقة الله، يجب أن نعترف أنه ليس فقط في إجابة السؤال، تظهر حقيقة الله. ولكن الله حاضر حتى في عملية السؤال نفسها. عندما نركز انتباهنا على الأسئلة اللاهوتية، فإننا نفعل ذلك داخل أفق الرموز المسيحية. هذه الرموز تعكس اختبار مسبق مع الحضور الإلهي، وهي خبرة تستمر في إنتاج وعي بحقيقة شاملة محتوية تشهد عن اسم "الله". (الله ليس شيء أو موضوع لتفكيرنا الله هو حقيقة تحتوينا كلنا وتحتوي كل شيء). إن السعي نحو مزيد من التأمل اللاهوتي هو عملية شحذ وتقوية فهمنا الموجود من قبل عن الله في صورته المدمجة على مستوى المعنى الرمزي. (التأمل اللاهوتي هو فك الرمز واستكشاف المعاني الكثيرة الكامنة فيه في صورة غير مفسرة).
الرمز هو خبرة وجودية مدمجة مع الله، يحاول اللاهوت أن يفكها ويجعلها تخاطب الواقع اليومي الحضاري الذي نعيش فيه.
هذه العملية تجعل من اللاهوت عملية مشاركة لأن الأسئلة التي نطرحها عن الله تصبح في نفس الوقت أسئلة يطرحها الله علينا. نحن أنفسنا نصبح جزءاً من الحقيقية التي نتساءل عنها. من أنا كمخلوق محدود ينظر إلى هوة اللامحدودية؟ من هم هؤلاء البشر الفانون الواقفون في وجه قداسة مهوبة وأبدية؟ عندما نتأمل في الرموز الكتابية مثل محبة الله، أو عدالة الله أو نعمة الله، لا نملك إلا أن نسأل أنفسنا: هل أنا محب؟ هل أنا عادل؟ هل أنا منعم؟ أو ما هي علاقتي بإله هو كذلك؟ إذاً لكي نشحذ من فهمنا للأمور الإلهية فنحن نشحذ من فهمنا لأنفسنا أيضاً؟
هذا أيضاً يشحذ من فهمنا للعالم أيضاً. إن كان اللاهوت النقدي قد خلصنا من صنمية العالم ووضعنا إيماننا في الله المتعالي ــ إله الوصية الأولى. خطورة تعالي الله، هو انفصالنا عنه، وخطورة اقتراب الله هو تكوين صنماً، فالله يجب أن يكون في تخالف الاقتراب والابتعاد معاً ! هل من الممكن أن نعيش حياتنا اليومية بلا أي مفهموم ذو معنى أو صورة للعلاقة بين الله والعالم؟ هل اتباع الوصية الأولى معناه أن نعيش محرومون من فهم معنى لهذه الحياة؟ ليس بالضرورة.
الثقة بالله بدلاً من العالم وأصنامه، لا تتركنا وحدنا في صحراء الموضوعية الديكارتية والشك الديكارتي. بل الإيمان في الله المتعالي يعيد توجيه حياتنا في هذا العالم حول النقطة التي فيها يقوم الإلهي والأبدي بالتلامس مع البشري والمعتاد، عندما قام الله بالإعلان عن نفسه، وبالتحديد في يسوع المسيح، فيسوع المسيح هو إعلان الله عن نفسه وليس محاولة الإنسان فهم الله. هو الله عندما يتجسد وليس الإنسان عندما يحاول أن يُجسد الله، فيصنع صنماً !
لأننا لا نملك تواصلاً مباشراً مع الإله المتعالي، يجب أن تكون نقطة التوجيه هي الرموز التي تحيلنا إلى الحدث الإعلاني The revelatory event ، لذلك تقع الرموز المسيحية عند ما يمكن أن نطلق عليه مكان الالتقاء بين الله المتعالي غير المدرك وبين العالم المعتاد الذي نعيش فيه. أو بكلمات أخرى يقع الرمز بين الحاضر والمستقبل بين الحضور القادم لملكوت الله وبين ابن الله المتجسد الحال بيننا.
اللاهوت النظامي يصبح معيداً للبناء عندما يسأل السؤال: كيف يمكننا أن نفهم عالمنا الآن بعد أن لمسه الله؟ إن كانت الرموز العتيقة تشير إلى أن الله هو الخالق المنعم، فإننا نخاطر بفرضية أننا نستطيع أن نفهم عالمنا بصورة أفضل إذا استقبلناه كعطية من الله. إن كان حدث يسوع المسيح الخلاصي يشير إلى أن الله يتصرف من منطلق محبة فادية، فنحن نخاطر باعتبار أن التفاعل الاجتماعي يكون أكثر أصالة إن كان يسعى دائماً للمصالحة والقبول. لذلك فإننا عندما نتصرف من هذا المنطلق ونجد نجاحاً فإن هذا يؤكد لنا صدق الرمز، وصدق التجسد وصدق الإنجيل. (على سبيل المثال عندما ينجح القبول غير المشروط في شفاء مريض نفسي أو مدمن، أكثر من المواجهة والعقاب، فهذا يؤكد أن الإنجيل صادق وأن الله بالفعل لمس عالمنا بالإنجيل!)
إن كان الكتاب المقدس يعدنا بحضور إلهي معزي للروح القدس، فنحن نخاطر بأننا في أسوأ لحظات يأسنا لدينا سبباً معقولاً يجعلنا نؤمن أننا لسنا وحدنا. مثل هذا التفكير التكاملي يطالب اللاهوتي أن يعيد تشكيل صورة للعالم ولأنفسنا فيه، يتكامل كل شيء معاً من خلال علاقته ومصيره في الله.
الأسئلة والمبادئ الرئيسية
و نحن نتتبع مهام اللاهوت النظامي المسيحي في إطارنا الذي يتسم بالوعي الحداثي المستقر والوعي البعد حداثي المتنامي، سوف نضع في أعتبارنا دائماً القضية التفسيرية: كيف يمكن لرموز الإيمان المسيحي العتيقة أن تتكلم لنا بصورة دالة وذات معنى اليوم؟ وبملاحظة أن هذا السؤال كان أهم ما يميز اللاهوت الحديث، فإني أعترف أن أجندة عمل هذا الكتاب هي حديثة من هذا المفهوم.
بالإضافة إلى ذلك توجد قاعدتان للتفكير البعد حداثي سوف يكونا ذا موضوع في محاولتنا للإجابة عن هذا السؤال القاعدة الأولى هي قاعدة التفكير الكلي holistic thinking الرغبة في البناء والتكامل تشير إلى حاجة الإنسان العميقة للشفاء والتكامل والاطمئنان إلى الوحدة والخلاص the assurance of oneness and salvation
القاعدة الثانية للتفكير البعد حداثي هي قاعدة إعادة البناء الافتراضي hypothetical reconstruction كل ما نفعله لاهوتياً هو نظري وافتراضي لأنه بعد نقدي. لا توجد هناك طريقة أمينة فكرياً نعود بها إلى السذاجة الأولى دون مخاطرة الوقوع في التشويه الذي تفعله الأصولية. علينا أن نواصل ونثابر، محتوين شكنا واعترافنا بتعددية المناظير طوال الطريق. يجب أيضاً أن نكون إعادة بنائيين reconstructive لأن نفس فكرة المعنى تتضمن أننا نعيش في عالم من المعاني. إننا لا نستطيع أن نحيا حياة ذات معنى في عزلة. المعنى دائماً ما يكون جماعياً أو مجتمعياً، يجب أن نشترك فيه مع الآخرين ومع العالم ومع الله. إن دور اللاهوت النظامي هو أنه يرينا كيف نفعل ذلك. أن يرينا كيف أن العالم له معنى لأن الله أحبه من خلال أنه خلقه وفداه وجعله كلاً متكاملاً.
No comments:
Post a Comment