مخاطبة إنسان ما بعد الحداثة
في القرن الحادي والعشرين، أصبحت جزيرة الأمان في الإيمان صغيرة الحجم إذا تلاطمها وتنحر في شواطئها أمواج الحياة العصرية من كل ناحية. يمكننا أن نشبه اللاهوتي المعاصر بشخص مستعد أن يقفز من هذه الجزيرة ليصارع أمواج الوعي الحداثي واعياً لمخاطر ترك الأرض اليابسة للسذاجة الكتابية خلفه ولكن في نفس الوقت يحدوه الأمل أنه بعد أن يسبح مقاوماً لكل هذه التيارات، سوف يصل لجزيرة أخرى من المعنى. وحتى إن لم تظهر هذه الجزيرة أبداً ، يكون مستعداً أن يعتمد على إيمانه القوي في غير المنظور، واحتماله للغموض و يتعلم كيف يستمتع بالسباحة إلى الأبد !
القضية التفسيرية The Hermeneutical Question
هذا السؤال أو تلك القضية تقع في قلب أي مشروع لاهوتي يمكن إطلاق صفة الحداثة عليه. وذلك بسبب الحقبة الزمنية الكبيرة (20 قرن) بين المسيحية الحالية والمسيحية عندما نشأت. كيف يمكن للإيمان المسيحي الذي تم اختباره والتعبير عنه بصورة رمزية في إطار ثقافة قديمة، أن يكلمنا اليوم بصورة ذات معنى في وسط عالم تحكمه العلوم الطبيعية والفهم العلماني للذات والصرخة المتزايدة في العالم نحو مزيد من الحرية؟ حاول رودلف بولتمان الإجابة عن هذا السؤال من خلال نظرية تخليص الكتاب المقدس من الأساطير Demythologizing the Bibleحاول تيليك فعل ذلك من خلا ل التناول التبادلي Correlative method و ديتريش بونهوفر من خلال محاولة تطوير مسيحية لا دينية Religiousless Christianity
والآن كيف للإيمان المسيحي أن يكون مفهوماً في وسط هذا الوعي البعد حداثي الذي يظهر حالياً. هذا الوعي البعد حداثي الذي بالرغم من كونه مدفوعاً بالعطش للاكتمال الفردي والكوني إلا أنه لا يزال يروِّج لنفس الموضوعات الحداثية مثل التطور والوعي المستقبلي والحرية الفردية. إنني في هذا العمل أنطلق من الافتراض بأن الإيمان المسيحي يمكن تأطيره في إطار العصر بمعنى أن رموز الإيمان يمكن فهمها من خلال الإطار الحضاري الذي تعمل فيه. ما هو إذاً هذا الإطار الحضاري؟
تحديات العقل الحداثي Challenges of the Modern Mind
الفرضية التي تعد الأكثر مأساوية من فرضيات العقل الحداثي هي أن الرموز المسيحية قد عفا عليها الدهر وهذه دعوى لم تحدث في أي من القرون الماضية لكنها ظهرت بعد عصر التنوير والثورة الصناعية. بالنسبة لبرتراند راسل مثلاً ، العلم الحديث لابد أن يكون إنسانياً ملحداً. يعتقد الإنسان الحداثي عموماً أن إقصاءه لله من مركز الحياة يعطيه الحرية فقد اعتقد الإنسان الغربي الحديث أن حريته إنجاز حققه له الأجداد بتحريره من سلطان الملك الذي كان يملي عليه ما يجب أن يفعل والكنيسة التي كانت تملي عليه كيف يجب أن يفكر.
كان لتقدم العلاج النفسي أيضاً دوره في الإسراع من عملية تحرير الذات من الداخل أيضاً. إن كانت هناك "إرسالية" في العالم الحداثي فهي مكرّسة لامتداد الحرية الإنسانية وذلك بأن تلقي عنها كل المعوقات الخارجية من فقر وجهل وقهر سياسي واجتماعي وكل المعوقات الداخلية من الصور المشوهة عن الذات. كل هذا من أجل تحقيق الحرية والإرادة الذاتية للنفس الإنسانية.
ثم يأتي فلاسفة ما بعد الحداثة لينتقدوا بدورهم الحداثة أنها تفرق ولا تجمع وأن العلم الطبيعي والمادية البحتة لا يستطيعان وحدهما استيعاب الحقائق الروحية للتجربة الإنسانية فهما ضيقا الأفق ومحدودان. فالحرية عندما ُتعَرَّف فقط أنها الحرية الفردية فهي تفرق بين الناس وتجعلهم جزراً متباعدة و لا تخدم مصالح الجنس البشري ككل. فالحرية إذا تم فهمها على أنها الفردية والانعزالية فهي تدمر المجتمع.
أيضاً يحتج نقاد ما بعد الحداثة على التخصص الأكاديمي الدقيق الذي يمنع رؤية الكل واستيعاب الصورة الأكبر واحترام مفهوم أننا نعيش في بيئة واحدة كمن يستقلون معاً مركباً واحدة. باختصار يعيب البعد حداثيون على الحداثة أنها أعلت من قيم الحرية الفردية والتجزيء والتخصص فوق قيم المجتمع والقيم الكلية.
عندما ننظر للوراء ونلا حظ كل هذا، نجد أن التفرقة والانقسامية التي يعاني منها العقل الحداثي تكمن في الأرجل الثلاثة التي قامت عليها وهي العلم والعلمانية والحرية الفردية. هذا البناء يقف موقف التحدي من الإيمان الديني القبل حداثي والنقد البعد حداثي لذلك يمكن تسمية هذا البناء الحداثي بالوعي الناقد critical consciousness
جوهر الوعي الناقد هو عمل مسافة بيننا وبين النصّ القديم، يطلق اللاهوتيون على هذه المسافة ـ المسافة التفسيرية أو الهوة التفسيرية The Hermeneutical gap ومن تأثيرات فكر ديكارت الذي شكّل الفلسفة الحديثة، أنه أصر أن الحقيقة يجب أن تكون موضوعية ومنفصلة عن الخبرة الذاتية. أما الوجه الآخر من هذه الموضوعية فهي الذاتية المطلقة فبعض الأمور مثل القيمة والجمال والقبح والخير والشر و الأهمية والتفاهة قد انتقلت من دائرة الموضوعية إلى الذاتية المطلقة.
هنا نلاحظ أن بذور الفلسفة البعد حداثية كانت موجودة بالفعل داخل الحداثة فعندما أصر الفكر الحداثي على أن الحقيقة يجب أن تكون موضوعية ومنفصلة عنا وبالتالي تكون علمية أو تاريخية بالمفهوم الحديث للتاريخ، فإن كل ما هو معنوي لم يعد من الممكن اعتباره حقيقة بعد، لأن فيه شيء من الذاتية مثل الخير والشر والقبح والجمال وهكذا اختفت الموضوعية في الحكم على الأمور المعنوية. كان ديكارت يتساءل: كيف يتسنى لي كإنسان أن أتأكد أن الأفكار التي في ذهني تطابق الحقيقة في العالم الموضوعي؟
التعددية
يقع الصراع بين الموضوعية والنسبية في قضية التعددية فيقول الموضوعيون أن هناك منظومة من القوانين الطبيعية تحكم الطبيعة والقوانين المنطقية التي تحكم التفكير والسلوك المنطقي ينبع من اكتشاف هذه القوانين والعمل وفقها من خلال التكنولوجيا والمنطق. أما النسبيون فيقولون أن ما نسميه منطقاً هو أمر متغير بتغير الإطار الثقافي والاجتماعي المتعدد المناظير.
يترجم البعد حداثيون وخصوصاً التجزيئيون منهم deconstructionist post-modernists هذه المناظير إلى مناظير تختلف باختلاف الوضع الثقافي والاجتماعي وبالتالي ينكرون على البشر إمكانية الوصول إلى موضوعية كونية. الحقيقة هي أن الموقفين هما وليديّ العقل الحداثي والصراع بينهما ما هو إلا صراع بين اخوة ونحن غالباً ما نستخدم طريقتي التفكير حسب الموقف فعندما يكون موضوع البحث مختصاً بالعالم المادّي، نستخدم التفكير الموضوعي وإن كان يختص بالعالم المعنوي فإننا نلجأ للنسبية والتعددية العرقية والثقافية.
وهذا الفصل الفكري بين المفهومين يعكس الضغط في اتجاه أسلوب التفكير الانشقاقي dichotomous thinking الذي يبدو أنه أصبح جزءاً لا يتجزأ من الوعي الناقد للعقل الحداثي . لذلك فإننا نحتاج لأن نتحدى هذا الفكر الانشقاقي في محاولتنا استيعاب مفهوماً أكثر شمولاً للحقيقة وأكثر احتواءاً لكل أنواعها وصورها. هذه المسافة الناقدة التي نفصل فيها بين ذواتنا وبين الموضوع جعلتنا ننسى أن هناك واقعاً واحداً يشمل الأشياء الخارجية والداخلية معاً في علاقات متبادلة. إن مشاعرنا وميولنا ومناظيرنا وتقييماتنا وتحيزاتنا هي أيضاً حقيقية وواقعية مثل أي واقع موضوعي ثابت ومتسق. صحيح أنه متغير وإنما تغييره في حدود لكونه مرتبط بالعوامل الوراثية التي هي واقع مادّي. وهنا نرى الارتباط بين العالمين المادّي والمعنوي في منظومة واقعية واحدة.
لذلك لا ينبغي أن تقتصر الحقيقة على الموضوعية و في نفس الوقت لا يجب إنكارها باسم النسبية الثقافية أو التعددية الاجتماعية أو العرقية.
Truth cannot be limited to objectivity nor ought it be denied in the name of cultural
relativity.
الشك
من تراث ديكارت أيضاً وهو ما يشكل العلم والفهم العلماني للذات، ما يمكن أن نسميه "قاعدة الشك" The principle of doubt قال ديكارت: أنا أفكر إذاً أنا موجود. كان مبدأ الشك عند ديكارت أنه يشك في كل شيء فيما عدا وجود الشكاك نفسه (أنا موجود). في القرنين التاسع عشر والعشرين أصبحت نصل الشك أكثر حدّة وتقطع بعمق أكثر. كارل ماركس وفريدريك نيتشة وسيجموند فرويد أضافوا أيضاً الشك في الشكاك نفسه. فمعرفة الإنسان لنفسه لم تعد بمنأى عن الشك فنحن لسنا واعين تماماً بما يشكل وعينا. ماركس يقول أن "مشيئة الله" ما هي إلا تطلعات الطبقة البرجوازية ملتحفة بعباءة الدين. وفرويد يقول أن صورة الأب السماوي ي ما هي إلا صورة الأب التي يرسمها الإنسان تعويضاً عن خسارته وفجيعته في الأب الأرضي الذي اكتشف أنه لم يعد قادراً على حمايته. هذه الفسلفات أدّت إلى ما يمكن أن نسميه "موت الله". لم تعد هناك طريقة قاطعة تثبت بها بشكل قاطع ما يقوله اللاهوتيون عن الله إن كان صحيحاً أم خاطئاً. لم يعد الشك فقط في موضوعية وتاريخية وواقعية العقائد الدينية بل امتد إلى الدوافع الداخلية لوضع مثل هذه العقائد.
التفسير كرد فعل لاهوتي Hermeneutics as a Theological Response
كيف تجاوب اللاهوتيون المسيحيون لتحدي الواعد الناقد إذاً ؟ كان أول شيء هو تشكيل رد فعل في صورة ما يمكن أن نسميه القضية التفسيرية أو السؤال التفسيري. هذا السؤال التفسيري يدور حول حقيقة أن الإطار أو السياق الحضاري قد تغيّر ومهمة اللاهوت الرئيسة هي نقل المعنى من سياق حضاري ماضي إلى السياق الحضاري الحالي. أي إعادة تفسير المعنى الأصلي لما يريد الكتاب أن يقوله في موقفنا الحاضر.
في رأيي أن قيمة هذا السؤال التفسيري تتزايد في خبثها ومراوغتها عن ذي قبل بالذات ونحن ننتقل من العالم الحداثي إلى العالم البعد حداثي. أولاً لأن اللغة في العالم الكتابي لا تختلف عنها في العالم الحداثي وطريقة التفكير الحداثية، فبذور الحداثة كانت قائمة في عصر ما قبل الحداثة.
إن ما نحتاجه الآن هو أسلوب لاهوتي يفترض أن الفهم القديم والحديث كلاهما ينتميان إلى تقليد واحد وشامل هو التاريخ ــ أي إلى قصة واحدة هي قصة الكائن البشري على الأرض. وثانياً لأن للإيمان المسيحي رموزاً لا يمكن نقلها أو تغييرها لرموز معاصرة فهي ضرورة للإيمان كرمز الصليب مثلاً. إن ما يسمح للإنجيل بالانتقال من عصر إلى عصر ليس قدرته على النقل أو سهولته وإنما بسبب رموزه اللاهوتية القادرة على أن تشع نفس المعاني العميقة في سياقات جديدة.
1 comment:
Post a Comment