الله كلّي القوة
الله كلي القوة
من الصفات الإلهية المثيرة للجدل، صفة القدرة الكلية. من منظور الإيمان الكلاسيكي بالله، الله يمارس قدرته الكلية بطريقتين: الطريقة الأولى هي التدخل غير المباشر عن طريق طرق وأسباب ثانوية، والطريقة الثانية هي التدخل المباشر الذي من خلاله خلق العالم من الأساس، وهذا التدخل اليوم هو ما يصنع المعجزات. ولكون الطريق الأولى المبنية على الأسباب هي الطريقة المعتادة، حتى لا يشعر البشر بالخوف والرعب من قوة الله المطلقة. أي أن الله كما لو كان قد "روض" قوته وجعلها تسير في مسارات من الأسباب المنطقية الثابتة لكي يسمح للإنسان بالوجود وممارسة قوته وحرية اختياره ويحميه من الخوف والسلبية. معنى هذا أن كل شيء في النهاية معتمد على الله ولكن الله لم يحدد بشكل حتمي كل شيء بل سمح للإنسان الحر أن يحدد لنفسه مسار حياته. Everything is dependant upon God, but not everything is precisely determined by God.
لقد قام الله بنفسه بعمل حدود لقوته وحريته، لكي يسمح لقوة وحرية الإنسان بالوجود.
كما أنه من المتفق عليه أن الله يستطيع أن يفعل أي شيء طالما لم يحتو هذا الشيء على تناقض. الله حر أن يعبّر عن جوهر ألوهيته لكن هناك أشياء لا يستطيع الله أن يفعلها. الله لا يستطيع فعل الشر (الله غير مجرب بالشرور!) لأنه متعارض جوهرياً مع طبيعته. الله لا يستطيع أن يموت ولا يستطيع أن يخلق إلهاً آخر كلي القدرة! لأن هذا يتناقض جوهرياً مع طبيعة القدرة الكلية. لذلك يقول توما الأكويني: " كل ما يشتمل على تناقض لا يمكن أن يوجد في إطار قدرة الله الكلية."
أظهر إله العبرانيين قوته ليس من خلال تنظير فلسفي وإنما من خلال تدخل تاريخي أثبت به أنه أقوى من قوة فرعون العسكرية وأقوى من الطبيعة. وفي النهاية أسس يهوه العهد مع الشعب في جبل سيناء. كلمة شدّاي تعني كل من "جبل" و" قدرة" في نفس الوقت. ففي هذا الجبل رأى الشعب قدرة الله وفهموا أنه كليّ القدرة. ومن هنا جاءت الرموز الكتابية الدالة القدرة مثل: "ملك الله"، "سيادة الله"، وغيرها من تعبيرات القوة والسلطان في العهد القديم. لكن في كل مرة يعلن الله قوته، لا يعلنها في صورة قوة غاشمة بلا عقل وإنما هي قوة يمارسها الله لتحقيق نعمته.
ثم في العهد الجديد، أعلنت قوة الله من خلال تواضع المسيا الحقيقي، يسوع المسيح، الذي صُلِب من ضعف. لهذا يقول بولس أن "ضعف الله أقوى من قوة الإنسان." (1كو 1- 25- 27 ، 2كو 13: 4).
فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. ِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، ويَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ. (في 2: 6-9). هكذا من خلال الضعف، ظهرت قوة الله المُخَلِّصة.
يعترض بعض الفلاسفة مثل ألفريد نورث وايتهيد وتشارلز هارتشورن على فكرة القدرة الكلّية لكونها تستبعد مفاهيم مثل الصدفة أو الحرية من المشهد الكوني. يقول هارتشورن أن المفكرين المسيحيين اتبعوا نموذج "الطاغية" مصورين الله ليس كملك ينقذ ويخلص ويؤسس ولكن كطاغية يتخلص بصورة مستمرة من أي بادرة للحرية الإنسانية لكي يكون حكمه الإلهي مطلقاً وكاملاً. ثم يقدم هارتشورن هذا التحدي:" هل يمكننا أن نعبد إلهاً خالياً من السخاء للدرجة التي تجعله ينكر علينا أي مشاركة، مهما كانت متواضعة، في تحديد بعض التفاصيل في هذا العالم كمشاركات ضئيلة في تلك العملية الإبداعية التي تسمى الواقع؟"
لكن هل هذا الاتهام الذي اتهم به هارتشورن المفكرين المسيحيين صحيحاً؟ أظنه ليس كذلك. فالهدف من مفهوم القدرة الكلّية ليس الطغيان وإنما الخلاص من الطغيان. لقد استخدم يهوه قوته لتحرير شعبه من الطغيان. لذلك فإن أي طغيان باسم الله (أي دين سلطوي) يتعارض مع طبيعة الله نفسه ويسيء للإيمان به.
إن عقيدة القدرة الكلية تؤمن أن العالم كله معتمد على الله وفي نفس الوقت تؤكد على أهمية القرار الإنساني. هذه الفكرة نشأت من خلال التفريق الكلاسيكي بين قدرة الله المطلقة Absolute power والتي بها خلق العالم كله من العدم وبين قدرته المعتادة Ordinary Power التي تعمل يومياً من خلال الأسباب. بكلمات أخرى، الله يحدّ يومياً من قدرته المطلقة لكي يسمح لحرية وإبداع الإنسان بالمشاركة معه في إدارة العالم.
يشبه الأمر أم تعد عجين الفطائر وتترك لأطفالها حرّية أن يشكلوها ويخبزوها كيفما شاءوا.
القدرة الكلية في المفهوم المسيحي مرتبطة بوعد الخليقة الجديدة الذي أعطانا عربونه من خلال إقامة يسوع من الأموات. لقد احتاج الأمر من الله قوة لكي يقيم يسوع من الأموات وهو ما يزال يستخدم قوته لتغيير الدهر الحالي و لتحقيق ملكوته الأبدي. قد نظن أن الله لا يعمل بالسرعة أو بالقوة الكافية، لكنه لا يعمل بمفرده بل نحن نعمل معه، نساعده ونعطلّه في نفس الوقت. لقد اختارت الأم أن تعد الفطائر مع أولادها وضحّت بالإتقان والسرعة في سبيل الحرية والمشاركة. لكنها في النهاية سوف تصل بالخليقة للاكتمال. أما عن كيف سوف يصل الله بالملكوت للاكتمال، فهنا يختلف الألفيون (سواء القبل ألفيين أو البعد ألفيين) مع اللاألفيين. الألفيون يقولون أنه سيأتي وقت ستتوقف "الأم" عن السماح لأولادها بالمشاركة أي يأتي المسيح ويؤسس ملكه الكامل (مادّياً لألف سنة ثم الحياة الأبدية، أو بالحياة الأبدية مباشرة) أما اللا ألفيين فيقولون أن الله سوف يستمر في تكميل الخليقة بهذه الصورة التدريجية بدون أحداث أخروية.
لكي أختم هذا الجزء من المناقشة، أحب أن أؤكد أنني في تفسيري لصفات الأبدية والقدرة الكلية والاستعصاء على الفهم قصدت أن أوضح أن محاولة فهم صفات الله تمثل عملية من التفسير اللاهوتي لتلك الرموز الكتابية المصمتة الغنية بالمعنى وهذا التفسير تم في ضوء نظرة للعالم كانت موجودة في روما القديمة وأوربا في العصور الوسطى، تلك النظرة التي كانت متأثرة إلى حد كبير بالمتيافيزيقا الإغريقية.
وتظل عملية التفسير اللاهوتي مستمرة وهي مستمرة اليوم. ويعد خطأَ كبيراً يرتكبه لاهوتيو هذا العصر إذا قبلوا المفاهيم التي يورثها لهم لاهوتيو الماضي المتأثرون بالثقافة الإغريقية ويعتبرونها مفاهيم محددة غير قابلة للنقد. لأنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم عندئذ يحولون هذه المفاهيم الروحية المجردة إلى مفاهيم "صنمية" جامدة ويجعلوا الميتافيزيقيا الإغريقية تحدد لنا واقعنا اليوم.
وليس لنا سبيل لمنع هذا "التصنيم" إلا أن نستخدم بصورة مستمرة النقد وإعادة المسايقة contextualization and criticism وذلك لكي نذكر أنفسنا أن هذه القائمة الكلاسيكية من صفات الله ليست منزلة ولكنها نتاج عملية لاهوتية سابقة من تفسير الرموز الكتابية. وكما فسر لاهوتيو الماضي تلك الرموز في ضوء سياقاتهم الفكرية في ذلك الوقت، يمكننا نحن أيضاً أن نفسر نفس الرموز الروحية الأبدية في ضوء سياقاتنا الحاضرة. وذلك إيماناً منا بأن هذه الرموز هي إعلانات من الله ولذلك فهي قادرة على ولادة مفاهيم روحية أبدية قادرة أن تخاطبنا بلغة جديدة في كل عصر.
إننا لا نقصد أن نشطب المفاهيم اللاهوتية القديمة ونتوقف عن دراستها، ولكننا يجب أن نتعامل معها كمعلومات لاهوتية وليس كوحي مُنَزَّل. الهدف اليوم هو أن نتجاوز هذه المنظومات اللاهوتية الكلاسيكية، ونذهب مباشرة إلى الرموز الكتابية الأصيلة ونحاول تفسيرها في ضوء رؤية العالم في عصر الحداثة الحالي وعصر ما بعد الحداثة الذي يبزغ علينا فجره. سوف أحاول أن أوضح هذا جزئياً من خلال تناول الصفات الإلهية من خلال مناقشة حياة الله الثالوثية The Trinitarian life of God وعقيدة الخليقة The doctrine of creation وذلك في ضوء العلوم الطبيعية المعاصر.
باختصار كما قدم لنا لاهوتيو الماضي تفسيراً لاهوتياً معاصراً (لوقتهم) في ضوء الميتافيزيقا الإغريقية ورؤية العصور الوسطى للعالم، يجب أن نقدم تفسيراً لاهوتياً معاصراً لنفس الرموز الكتابية الأبدية وذلك في ضوء ما يقدمه عصر الحداثة وبعد الحداثة من رؤية للعالم.
م)