عندما نسأل من هو الله؟ فإننا حتماً سوف نواجه عقيدة الثالوث. الله هو ذلك الكائن المتسامي الذي قد اتحد بالبشرية في شخص يسوع المسيح، والذي من خلال روحه، نحن وكل الخليقة نتحرك معاً نحو إتمام قصده النهائي. لذلك فإننا نجد أن عقيدة الثالوث ضرورية لأن يكون الله متواصلاً متفاعلاً معنا. فكما أنه الخالق المتسامي (الآب)، هو أيضاً المتكلم لنا بكلمته (الابن)، والحال فينا بروحه (الروح القدس).
هناك أسماء مختلفة أطلقت على الله في العهدين القديم والجديد أهمها هو اسم"يهوه" ومعناه بالعبرية: "الكائن"، كما أظهر الله نفسه لموسى في العليقة. كما أن العهد القديم استخدم بعض التسميات المستخدمة في الشرق الأوسط القديم مثل:
• إيل أو إيلوهيم أي الإله عموماً
• "إيل شدّاي" ـــ إله الجبل والقوة (القدير).
• "إيل بيريت" ـــ إله العهد.
وفي العهد الجديد أُشيرَ إلى الله بكلمة "ثيوس" وهي في اللغة اليونانية تشير إلى عموم آلهة الأولمب. بالإضافة لذلك يمتلئ الكتاب المقدس بكلمات للإشارة لله مثل الآب، الرب، الملك، الراعي، السيد الخ. بالطبع ليست هذه حقيقة الله فليس الله مجرد ملك أو راعي أو سيد أو مجرد قوي أو قادر أو صانع عهد. وليست هذه مجرد صور أو لقطات لله من أوضاع مختلفة. فنحن لا نستطيع أن نقف خارج الله ونلتقط له صورة! كما أنها ليست صفات إلهية نطالب نفسنا بأن نتوافق معها ونكونها. ولكنها رموز لاهوتية. والرموز اللاهوتية هي ،كما أوضحنا، محددات للإعلان الإلهي، تقف عند الخط الفاصل بين الواقع الإنساني الرتيب الضحل و الواقع الإلهي المتسامي. هي رموز تعبر عن اختباراتنا لله.
- عندما نختبر سلطان الله في حياتنا ــــ نقول الله ملك!
- وعندما نختبر رعايته ــــــــــــــــــــــ نقول: "الربُّ راعيَّ"
- وعندما نتأمل الخليقة ونرى الله يصنع شيئاً جديداً لم يخطر ببالنا ـــ نقول الله خالق.
- عندما نختبر أمانة الله لوعوده ـــــــــــ نقول إله العهد.
الوعي بالله
أساسي في كل دين هو ذلك الوعي بأن هناك حضوراً يفوق ويتسامى على الحضور المادي للعالم المنظور. أي أن هناك واقع آخر غير ما نستقبله بحواسنا الطبيعية. الوعي بحضور الله هو ذلك الوعي المفاجئ والحادّ بأن هناك شيئاً ما آخر غير العادي والمألوف والروتيني. هناك بعد آخر ينفتح فجأة في لحظة. عندئذ نشعر بأن العالم كل يقف ويصبح بلا قيمة أمام قيمة وثراء تلك اللحظة التي يتكثف فيها وعينا بالوجود كله. العالم المحيط بنا الذي كنا نراه بطريقة عادية، نراه الآن بطريقة خاصّة. البشر الذي كنا ننظر إليهم وفق مشاعر إنسانية من الارتياح أو الضيق أو أي من التفاعلات الإنسانية، ننظر إليهم الآن من منظور خاص متسامي. وكأن الإنسان قد ارتفع فوق الأرض وتغير منظوره لكل شيء. عندئذ تبدو الحياة وكأنها باباً يؤدي إلى شيء آخر أكثر عمقاً واتساعاً. عند هذه النقطة يصطدم الإنسان بسؤال الوجود: لماذا هناك وجود وليس عدم؟
أو بالأخص: لماذا أنا أوجد؟ ثم يتساءل الإنسان عن وجود الأشياء والأشخاص من حوله، وما أهمية وجودهم؟ وماذا يحدث إن توقف كل شيء عن الوجود؟ ثم يدرك الإنسان أن كل شيء موجود سوف لا يظل موجوداً، كل شيء سوف ينتهي؟ إذاً ما الغرض من وجود مؤقت متحرك نحو النهاية؟ هل لا يوجد معنى لأي شيء؟ أم يوجد شيء آخر خارج هذا الوجود يعطي لكل ما في الوجود معنى؟
هذا السؤال من شأنه أن يقودنا إما إلى اكتمال المعنى والأبدية، وإما إلى انعدام المعنى والعدمية. تماماً مثلما الذي يقف عند حافة هاوية. إما أن يرى الأرض خلفه ويقدِّر قيمتها بالنظر إلى الهاوية ويتوقف عن أن يستقبل الأرض كأمر مسلم به، أو كأنها كل شيء، أو أن ينظر للهاوية أو اللاشيء ويفقد نفسه في الهاوية طالما أن الأرض تنتهي للهاوية.
عند هذه النقطة نشعر إما بمزيد من التقدير للوجود أو نحتقر الوجود لأنه يؤدي للعدم فنلقي بأنفسنا بين يدي ذلك العدم. أو نعيش في حالة قلق مستمرة من إمكانية انعدام الوجود.
بكلمات آخرى، يمكن أن يقول إنسان، إن كانت حياتي ستنتهي وهناك وجود آخر بعدها، من الممكن أن يعطيها معنى، فلأصنع منها معنى يستمر لما بعدها. ويمكن أن يقول إنسان آخر: إن كنا في النهاية سنموت، فلنمت الآن! أو: فلنأكل ولنشرب، لاننا غداً ننموت!
الله ـــ البعيد القريب
في لحظات السؤال هذه، عندما يتحرر الإنسان لحظياً من العادي والروتيني والمألوف ويقف عند حافة اللقاء بين العادي والمتسامي، ويتساءل عن الوجود، يجيب الله ويعلن نفسه. عندئذ يشعر الإنسان في أعماقه بأن الله يجيب ويقول أنه هو مصدر الوجود و خالقه من العدم. عندئذ يكون الإيمان هو أن يلقي الإنسان بنفسه بين يدي الله. يأتي هذا الإعلان من خلال الرموز اللاهوتية التي يجدها المؤمن في منظومته الدينية، مثل (رمز الله كملك، أو كخالق، أو التجسد، أو الفداء أو الصليب، أو القيامة، أو حلول الروح، الخ)
لذلك علينا كلاهوتيين أن ندفع أنفسنا و ندفع مجتمع الإيمان للوقوف عند حافة الجرف لنخلص الرموز اللاهوتية من الاعتياد والرتابة، والتراب الديني الذي يعلوها ونجعلها تقوم بدورها الذي قامت به في أول مرة وهو الإعلان عن الله. هذا هو دور اللاهوت كفاحص وممتحن وناقد ومفسر للرموز.
اللاهوت يسأل:
ما معنى أن يكون الله ملك؟ ما معنى هذا بالنسبة لي اليوم؟ وبالنسبة لأسرتي ومجتمعي؟
ما معنى أن يكون الله آب؟ كيف يؤثر هذا على سلوكي وصراعاتي؟ كيف يجعلني هذا أعيش اليوم؟
ما معنى أن يكون الله خالق؟ وأن أكون أنا مخلوق؟ كيف يمكنني أن أعيش كمخلوق لإله خالق؟
ما معنى الفداء؟ كيف أتمتع اليوم بفداء الله لي؟
من هو يسوع؟ ما معنى أن يتجسد كلمة الله في إنسان؟ ويرتبط بالتاريخ الإنساني؟ كيف أعيش عالمي الإنساني بعد أن عرفت أن الله اختار أن يتحد به بهذه الصورة الحميمية؟
لماذا الصليب؟ لماذا الموت، لكي تكون هناك حياة؟ ما هو دور الموت في حياتي الآن؟ وكيف أحيا من خلال الموت؟
هذه الأسئلة ترتفع بنا فوق الأرض لنرى الأشياء على حقيقتها وننفتح على إعلان الله عن نفسه. هي التي تدفعنا إلى حافة الجرف لنرى الأرض والهاوية. عندئذ ننفتح على سؤال الوجود وسؤال الله. والله يجيب في أعماق ضمائرنا، وهكذا يتجدد الإيمان ويتخلص من الاعتياد والدين.
يظل هناك ذلك التوتر الجدلي القائم
بين العالي والمتسامي
بين المتجاوز لحياتنا والحميم القريب منها
بين الله خالق الأكوان والكواكب وبين الله الذي هو... "إلهي!"
في أعماق وجودنا الشخصي، نحن لا نريد أن نكون بمفردنا. نحن نشتاق للعلاقة الحميمة. لكن مهما كان الاقتراب الإنساني، نجد داخلنا احتياج لا تشبعه العلاقات الإنسانية ولا يشبعه العالم بأسره.
عندما رأى موسى منظر العليقة المتقدة بنار ولا تحترق سأل الصوت عن اسمه. هذه رغبتنا دائماً في معرفة اسم لكل شيء لكي نخضعه تحت سلطاننا. الوثنية هي ببساطة هي صنع شكل واسم للقوة الإلهية، وذلك للسيطرة عليها حتى وإن كان ذلك من خلال إرضائها. أوليس الإرضاء نوع من السيطرة؟! لكن الصوت يجيب: "أهية الذي أهية" ـــ "أكون ما أكون" ومن هنا جاء الاسم العبري " يهوه" أو "الكائن" أو " أنا الكائن" هكذا واجه موسى ونواجه نحن أيضاً اسماً هو في واقع الأمر ليس اسماً، بل فعل!
وظيفة الاسم هي الإعلان عن الشيء أو الشخص بحيث يتوقف عن أن يكون غامضاً. لكن الله لم يعطنا اسماً كهذا يجعله معروفاً تماماً وخالياً من أي غموض أو سر. لا يمكن أن يصبح الله معروفاً لنا كما تصبح الأشياء معروفة. الله يظل حراً و متسامياً فوق معرفتنا. لكنه في نفس الوقت يريد أن يقترب منا. الله هو خالق السماء والأرض الذي تعلو أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء. لكنه أيضاً إله إبراهيم وإسحق ويعقوب. إله إسرائيل. وإله العهد وإلهي. هو الكلمة الأزلي الذي فيه قد خُلِق الكل، لكنه أيضاً يسوع المسيح. هو عمانوئيل....الله معنا.
نحن لا نستطيع أن نعيش في حالة من المعرفة الكاملة لله الآن. معرفتنا لله مليئة بالغموض والتوقع. معرفتنا له ليست كمعرفتنا لسائر الأشياء. هذا ما يتعبنا في العلاقة مع الله وهذا أيضاً ما يشبعنا وما نحتاج إليه فنحن نحتاج لمن يقترب إلينا في حياتنا اليومية ولكن ما يخرج بنا من قيودها للإبحار في آفاق المطلق. نحن مخلوقون ومحدودون، ولكننا مدعوون للتسامي فوق حالتنا المخلوقة الضعيفة المحدودة.
الإيمان الكلاسيكي بالله وصفاته
إن قلب الائتلاف بين المفهومين العبري واليوناني لله هو اعتبار أن الله هو مصدر الوجود. على هذا الأساس عرَّف الفيلسوف اليهودي فيلو السكندري ذلك الصوت الذي تكلم إلى موسى في خروج 3: 14 أنه "هو الذي يكون" he who is وتبعه يوحنا الدمشقي بقوله أن الله هو ذلك "المحيط غير المحدود من الوجود". الله غير موجود! الله ليس له وجود مثل باقي الكائنات، الله هو الوجود نفسه Being Itself وهو الذي يعطي لكل موجود وجوده. وبالرغم من أن الله يتسامى عن الموجودات والموصوفات، إلا أن الواقع الذي نعرفه هو واقع الموجودات والموصوفات، ولا نستطيع لكي نتعرف على أي كيان إلا من خلال هذه الصفات، فإن الله يعلن لنا عن صفاته الجوهرية التي تميز وجوده. الله يدخل عالم الموجودات والموصوفات ليعلن عن نفسه. لكنه ليس بالضرورة موجود بينها. كون الله يعلن عن نفسه هو في حد ذاته تنازل كبير.
من نماذج صفات الله تلك القائمة الموجودة في وثائق المجلس اللاترني العام الرابع سنة 1215 والتي كررها مجمع الفاتيكان الأول 1870 والتي تقول: " نحن نؤمن بشدة ونعترف ببساطة أنه هناك إله واحد حقيقي، أبدي، غير محدود، غير متغير، كلي القوة والقدرة. لا يُحاط فهماً ولا وصفاً." وشبيهاً بذلك سؤال التعليم العقائدي الوستمنستري
السؤال: ما هو الله؟
الجواب: "الله هو روح أزلي أبدي غير متغير في وجوده وحكمته وقوته وقداسته وعدله وصلاحه وحقه." هناك نوعان من صفات الله، الصفات المنفية والصفات المثبتة، أي "ما هو" و "ما هو ليس". الصفات المنفية هي الصفات التي تصف الله المطلق بالمقارنة بمحدودية الإنسان والصفات المثبتة هي الصفات التي تثبت كمال الله.
من الصفات المنفية أنه الله لا يمكن أن يحيطه الفهم ومن الصفات المثبتة أنه كلي القوة والعلم. من الصفات الواضحة في الله أنه لا يُحاط بالفهم ineffable . الجوهر الإلهيلا يمكن فهمه! نسب العقل اليوناني، تبعاً للتقليد الأفلاطوني والأفلوطيني لله صفة الاستعصاء عن الفهم والمعرفة وأرجعوا ذلك إلى وحدة فكر الله في مقابل ثنائية فكر الإنسان. بالنسبة لنا، لكي نفكر، فنحن نفكر في صورة المتقابلات والمتضادات والتعددية. أما الله، فهو الحقيقة المطلقة، لذلك يجب أن يكون بسيطاً وليس معقداً. لذلك فإن تلك الحقيقة المتسامية الواحدة البسيطة لا يمكن أن نفكر فيها ونفهمها بعقولنا المنقسمة. الله لا يمكن فهمه، وإن كان هناك إمكانية لاختبار الله فهو يختبر في لحظات الخروج خارج العقل
الله قدوس. أي مختلف
أما في الفكر العبراني المسيحي، فكون الله غير قابل للفهم ينبع من اختبار قداسة الله ومفهوم القداسة هو الاختلاف التام عن أي شخص أو شيء آخر وليس من خلال التناقض بين فكر الإنسان الثنائي وفكر الله الواحد. ولكن المفهوم اليوناني لعدم قابلية الله للفهم أصبح الوعاء الذي استخدمه المسيحيون الأوائل لشرح الله الذي واجهه موسى في العليقة المحترقة، فهو قدوس إسرائيل الذي يتكلم مع موسى ويرفض أن يعرف نفسه لموسى باسم. وهكذا كتب المدافع الأول عن المسيحية جستن مارتر:" لا يستطيع أحد أن ينطق اسم الله غير القابل للوصف." وهكذا تم وصف قداسة إله العبرانيين (أو اختلافه عن أي شيء) باعتباره الواحد المتسامي. ويقول إيرينايوس عن الله أنه:" الكائن البسيط غير المركب الذي بلا أجزاء مختلفة." ولكونه هكذا فهو "غير قابل للوصف"
في الكتاب المقدس ترتبط قداسة الله بأمرين: الأول هو فعل الله في المستقبل، والثاني هو اسم الله. فتبعاً لنبوة حزقيال، الله سوف يعلن قداسته من خلال عمله: " بِرَائِحَةِ سُرُورِكُمْ أَرْضَى عَنْكُمْ, حِينَ أُخْرِجُكُمْ مِنْ بَيْنِ الشُّعُوبِ وَأَجْمَعُكُمْ مِنَ الأَرَاضِي الَّتِي تَفَرَّقْتُمْ فِيهَا, وَأَتَقَدَّسُ فِيكُمْ أَمَامَ عُيُونِ الأُمَمِ فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ, حِينَ آتِي بِكُمْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ, إِلَى الأَرْضِ الَّتِي رَفَعْتُ يَدِي لأُعْطِي آبَاءَكُمْ إِيَّاهَا. (حزقيال 20: 41- 42) الله يتقدس من خلال عمله أمام كل الأمم. أي أنه من خلال عمله يعلن أنه متسامي ومختلف.
" لِذَلِكَ فَقُلْ لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ. هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: [لَيْسَ لأَجْلِكُمْ أَنَا صَانِعٌ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ, بَلْ لأَجْلِ اسْمِي الْقُدُّوسِ الَّذِي نَجَّسْتُمُوهُ فِي الأُمَمِ حَيْثُ جِئْتُمْ. فَأُقَدِّسُ اسْمِي الْعَظِيمَ الْمُنَجَّسَ فِي الأُمَمِ الَّذِي نَجَّسْتُمُوهُ فِي وَسَطِهِمْ, فَتَعْلَمُ الأُمَمُ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ حِينَ أَتَقَدَّسُ فِيكُمْ قُدَّامَ أَعْيُنِهِمْ. وَآخُذُكُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ وَأَجْمَعُكُمْ مِنْ جَمِيعِ الأَرَاضِي وَآتِي بِكُمْ إِلَى أَرْضِكُمْ." ( حزقيال 36: 22- 24)
إنه من أجل اسمه القدوس يعمل "يهوه" ويخطط لتنفيذ خطته للفداء. اسم "يهوه" يعرِّف إله إسرائيل ولكنه يخفي طبيعة الله، وهذا يسمح لإسرائيل أن يكون في علاقة عهد مع الله، لكن تظل هناك أموراً إلهية كثيرة مغلقة أمام فهم الإنسان. حَقّاً أَنْتَ إِلَهٌ مُحْتَجِبٌ يَا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ الْمُخَلِّصَ (إشعياء 45: 15) الله أعلن عن نفسه أنه المخلص لكن هذا لا يمنع كونه أيضاً إلهاً محتجباً مستعصياً على الإدراك."أَمَا عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَسْمَعْ؟ إِلَهُ الدَّهْرِ الرَّبُّ خَالِقُ أَطْرَافِ الأَرْضِ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَعْيَا. لَيْسَ عَنْ فَهْمِهِ فَحْصٌ." (إشعياء 40: 28).
الله أبدي
الفكرة اليونانية للأبدية هي كون الله خارج الزمن وغير متأثر به وبالتالي فهو لا يتعرض للتغيير أو الفساد كما يتعرض الإنسان المرتبط بالزمن. إلا أن الرموز الكتابية لا تتكلم عن كون الله خارج الزمن، بل تتكلم الرموز عن اختبار العبرانيين لله على مدار الزمن. يهوه يعد وعوداً داخل الزمن ويحققها في الزمن. يتكلم عن أشياء ستأتي وتأتي. يهوه يتدخل في الزمن.
بالنسبة لنا في العصر الحديث وبعد الحديث، نحن لا نستطيع أن نستوعب الأبدية كحالة من الوجود دونما توالي أحداث. حالة الوجود بدون أحداث تشبه الموت أكثر من الحياة. لذلك فنحن عندما نستخدم تعبير أبدي فمن الأفضل أن نفكر في أبدية الله من منظور أنه مستمر في تحقيق وعوده وإتمام مقاصده من الأزل إلى الأبد. إله إسرائيل هو إله الفعل وليس إله الخمول. وعود الله بشأن التحول المستقبلي للعالم، وقيامة الأموات والخليقة الجديدة والدهر الآتي، هي وعود يعمل الله بصورة دائمة على تحقيقها عبر الزمن. هناك أمور سوف تتغير والله يعمل على تغييرها. أما ما لن يتغير فهو أمانة الله عبر الزمن.
الله كلي القوة
من الصفات الإلهية المثيرة للجدل، صفة القدرة الكلية. من منظور الإيمان الكلاسيكي بالله، الله يمارس قدرته الكلية بطريقتين: الطريقة الأولى هي التدخل غير المباشر عن طريق طرق وأسباب ثانوية، والطريقة الثانية هي التدخل المباشر الذي من خلاله خلق العالم من الأساس، وهذا التدخل اليوم هو ما يصنع المعجزات. ولكون الطريق الأولى المبنية على الأسباب هي الطريقة المعتادة، حتى لا يشعر البشر بالخوف والرعب من قوة الله المطلقة. أي أن الله كما لو كان قد "روض" قوته وجعلها تسير في مسارات من الأسباب المنطقية الثابتة لكي يسمح للإنسان بالوجود وممارسة قوته وحرية اختياره ويحميه من الخوف والسلبية. معنى هذا أن كل شيء في النهاية معتمد على الله ولكن الله لم يحدد بشكل حتمي كل شيء بل سمح للإنسان الحر أن يحدد لنفسه مسار حياته. لقد قام الله بنفسه بعمل حدود لقوته وحريته لكي يسمح لقوة وحرية الإنسان بالوجود.
كما أنه من المتفق عليه أن الله يستطيع أن يفعل أي شيء طالما لم يحتو هذا الشيء على تناقض. الله حر أن يعبّر عن جوهر ألوهيته لكن هناك أشياء لا يستطيع الله أن يفعلها. الله لا يستطيع فعل الشر (الله غير مجرب بالشرور!) لأنه متعارض جوهرياً مع طبيعته. الله لا يستطيع أن يموت ولا يستطيع أن يخلق إلهاً آخر كلي القدرة! لأن هذا يتناقض جوهرياً مع طبيعة القدرة الكلية. لذلك يقول توما الأكويني: " كل ما يشتمل على تناقض لا يمكن أن يوجد في إطار قدرة الله الكلية."
أظهر إله العبرانيين قوته ليس من خلال تنظير فلسفي وإنما من خلال تدخل تاريخي أثبت به أنه أقوى من قوة فرعون العسكرية وأقوى من الطبيعة. وفي النهاية أسس يهوه العهد مع الشعب في جبل سيناء. كلمة شدّاي تعني كل من "جبل" و" قدرة" في نفس الوقت. ففي هذا الجبل رأى الشعب قدرة الله وفهموا أنه كليّ القدرة. ومن هنا جاءت الرموز الكتابية الدالة القدرة مثل: "ملك الله"، "سيادة الله"، وغيرها من تعبيرات القوة والسلطان في العهد القديم. لكن في كل مرة يعلن الله قوته، لا يعلنها في صورة قوة غاشمة بلا عقل وإنما هي قوة يمارسها الله لتحقيق نعمته.
ثم في العهد الجديد، أعلنت قوة الله من خلال تواضع المسيا الحقيقي، يسوع المسيح، الذي صُلِب من ضعف. لهذا يقول بولس أن "ضعف الله أقوى من قوة الإنسان." (1كو 1- 25- 27 ، 2كو 13: 4).
فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. ِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، ويَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ. (في 2: 6-9). هكذا من خلال الضعف، ظهرت قوة الله المُخَلِّصة.
يعترض بعض الفلاسفة مثل ألفريد نورث وايتهيد وتشارلز هارتشورن على فكرة القدرة الكلّية لكونها تستبعد مفاهيم مثل الصدفة أو الحرية من المشهد الكوني. يقول هارتشورن أن المفكرين المسيحيين اتبعوا نموذج "الطاغية" مصورين الله ليس كملك ينقذ ويخلص ويؤسس ولكن كطاغية يتخلص بصورة مستمرة من أي بادرة للحرية الإنسانية لكي يكون حكمه الإلهي مطلقاً وكاملاً. ثم يقدم هارتشورن هذا التحدي:" هل يمكننا أن نعبد إلهاً خالياً من السخاء للدرجة التي تجعله ينكر علينا أي مشاركة، مهما كانت متواضعة، في تحديد بعض التفاصيل في هذا العالم كمشاركات ضئيلة في تلك العملية الإبداعية التي تسمى الواقع؟"
لكن هل هذا الاتهام الذي اتهم به هارتشورن المفكرين المسيحيين صحيحاً؟ أظنه ليس كذلك. فالهدف من مفهوم القدرة الكلّية ليس الطغيان وإنما الخلاص من الطغيان. لقد استخدم يهوه قوته لتحرير شعبه من الطغيان.
لذلك فإن أي طغيان باسم الله (أي دين سلطوي) يتعارض مع طبيعة الله نفسه ويسيء للإيمان به.
إن عقيدة القدرة الكلية تؤمن أن العالم كله معتمد على الله وفي نفس الوقت تؤكد على أهمية القرار الإنساني. هذه الفكرة نشأت من خلال التفريق الكلاسيكي بين قدرة الله المطلقة Absolute power والتي بها خلق العالم كله من العدم وبين قدرته المعتادة Ordinary Power التي تعمل يومياً من خلال الأسباب. بكلمات أخرى، الله يحدّ يومياً من قدرته المطلقة لكي يسمح لحرية وإبداع الإنسان بالمشاركة معه في إدارة العالم. يشبه الأمر أم تعد عجين الفطائر وتترك لأطفالها حرّية أن يشكلوها ويخبزوها كيفما شاءوا. لله خلق الكون من العدم ولكنه يوكل للإنسان قيادته.
القدرة الكلية في المفهوم المسيحي مرتبطة بوعد الخليقة الجديدة الذي أعطانا عربونه من خلال إقامة يسوع من الأموات. لقد احتاج الأمر من الله قوة لكي يقيم يسوع من الأموات وهو ما يزال يستخدم قوته لتغيير الدهر الحالي و لتحقيق ملكوته الأبدي.
قد نظن أن الله لا يعمل بالسرعة أو بالقوة الكافية، لكنه لا يعمل بمفرده بل نحن نعمل معه، نساعده ونعطلّه في نفس الوقت. لقد اختارت الأم أن تعد الفطائر مع أولادها وضحّت بالإتقان والسرعة في سبيل الحرية والمشاركة. لكنها في النهاية سوف تصل بالخليقة للاكتمال. أما عن كيف سوف يصل الله بالملكوت للاكتمال، فهنا يختلف الألفيون (سواء القبل ألفيين أو البعد ألفيين) مع اللاألفيين. الألفيون يقولون أنه سيأتي وقت ستتوقف "الأم" عن السماح لأولادها بالمشاركة أي يأتي المسيح ويؤسس ملكه الكامل (مادّياً لألف سنة ثم الحياة الأبدية، أو بالحياة الأبدية مباشرة) أما اللا ألفيين فيقولون أن الله سوف يستمر في تكميل الخليقة بهذه الصورة التدريجية بدون أحداث أخروية.
لكي أختم هذا الجزء من المناقشة، أحب أن أؤكد أنني في تفسيري لصفات الأبدية والقدرة الكلية والاستعصاء على الفهم قصدت أن أوضح أن محاولة فهم صفات الله تمثل عملية من التفسير اللاهوتي لتلك الرموز الكتابية المصمتة الغنية بالمعنى وهذا التفسير تم في ضوء نظرة للعالم كانت موجودة في روما القديمة وأوربا في العصور الوسطى، تلك النظرة التي كانت متأثرة إلى حد كبير بالمتيافيزيقا الإغريقية.
وتظل عملية التفسير اللاهوتي مستمرة وهي مستمرة اليوم. ويعد خطأَ كبيراً يرتكبه لاهوتيو هذا العصر إذا قبلوا المفاهيم التي يورثها لهم لاهوتيو الماضي المتأثرون بالثقافة الإغريقية ويعتبرونها مفاهيم محددة غير قابلة للنقد. لأنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم عندئذ يحولون هذه المفاهيم الروحية المجردة إلى مفاهيم "صنمية" جامدة ويجعلوا الميتافيزيقيا الإغريقية تحدد لنا واقعنا اليوم.
وليس لنا سبيل لمنع هذا "التصنيم" إلا أن نستخدم بصورة مستمرة النقد وإعادة المسايقة وذلك لكي نذكر أنفسنا أن هذه القائمة الكلاسيكية من صفات الله ليست منزلة ولكنها نتاج عملية لاهوتية سابقة من تفسير الرموز الكتابية. وكما فسر لاهوتيو الماضي تلك الرموز في ضوء سياقاتهم الفكرية في ذلك الوقت، يمكننا نحن أيضاً أن نفسر نفس الرموز الروحية الأبدية في ضوء سياقاتنا الحاضرة. وذلك إيماناً منا بأن هذه الرموز هي إعلانات من الله ولذلك فهي قادرة على ولادة مفاهيم روحية أبدية قادرة أن تخاطبنا بلغة جديدة في كل عصر.
إننا لا نقصد أن نشطب المفاهيم اللاهوتية القديمة ونتوقف عن دراستها، ولكننا يجب أن نتعامل معها كمعلومات لاهوتية وليس كوحي مُنَزَّل. الهدف اليوم هو أن نتجاوز هذه المنظومات اللاهوتية الكلاسيكية، ونذهب مباشرة إلى الرموز الكتابية الأصيلة ونحاول تفسيرها في ضوء رؤية العالم في عصر الحداثة الحالي وعصر ما بعد الحداثة الذي يبزغ علينا فجره. سوف أحاول أن أوضح هذا جزئياً من خلال تناول الصفات الإلهية من خلال مناقشة حياة الله الثالوثية The Trinitarian life of God وعقيدة الخليقة وذلك في ضوء العلوم الطبيعية المعاصر.
باختصار كما قدم لنا لاهوتيو الماضي تفسيراً لاهوتياً معاصراً (لوقتهم) في ضوء الميتافيزيقا الإغريقية ورؤية العصور الوسطى للعالم، يجب أن نقدم تفسيراً لاهوتياً معاصراً لنفس الرموز الكتابية الأبدية وذلك في ضوء ما يقدمه عصر الحداثة وبعد الحداثة من رؤية للعالم.
الله كثالوث
التحدي الكامن في فهم الله كثالوث ليس هو تحدي كيف يمكن لواحد أن يكون ثلاثة وثلاثة أن يكونوا واحد وإنما هو تحدي التجسد. كيف يمكن للمتعالي أن يكون حميماً ولغير المحدود أن يحد نفسه. فكرة الثالوث هي مثال واضح لما يمكن أن نسميه "البناء اللاهوتي" أو المستوى الثاني من اللاهوت. وهو مستوى التأمل اللاهوتي لإعلانات كتابية أولية. المقولة الأولية التي بدأت عقيدة الثالوث هو ما قاله بولس هو أن الله الآب أقام الابن يسوع المسيح. "إن كان روح الذي أقام المسيح من الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم." (رومية 8: 11). أيضاً أورثنا بولس الرسول أيضاً البركة الرسولية: "نعمة الرب يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس تكون مع جميعكم." (2كو 13:13).
هناك الكثير من الفقرات الثالوثية في العهد الجديد مثل (2بط 1: 2 ، يهوذا 20: 21) ولكن الأكثر شهرة هي صياغة المعمودية الواردة في إنجيل متى 28: "دُفِع لي كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس." (مت 28: 18-19).
يسوع والآب
لم يشر إلى الله كأب في العهد القديم إلا حوالي 14 مرة بينما هناك 170 إشارة لأبوة الله في العهد الجديد. وعندما أشار يسوع إلى الله كأبيه استخدم تعبير آرامي هو "آبا" وهو تعبير دارج لا يستخدمه إلا الأطفال الصغار فيقولون للأب "آبا" وللأم " إما" ــ وهو المقابل لبابا وماما أو دادي و مامي هذه الأيام. ويقول اللاهوتي الألماني يواقيم ه يرمياس أن بالنسبة للعقلية اليهودية في ذلك الوقت، أن يخاطب الإنسان الله بهذه التعبيرات، فهذا يعد نوعاً من عدم الاحترام. لقد كان اليهود يتكلمون عن أبوة الله بصيغ مثل: " أبونا وملكنا" وهذا تعبير يشير إلى تسامي الله وتعاليه. أما تعبير "آبا" فيشير للقرب والحميمية. باستخدام يسوع لهذا التعبير، كان يعلن أن علاقته بالله حميمة مثل علاقة طفل بأبيه المحب. كما أنه أراد أن يورث تابعيه نفس العلاقة الحميمة مع الله عندما علمهم الصلاة الربانية التي تبدأ: "أبانا الذي في السموات" مستخدماً نفس التعبير الآرامي "آبا"! أما الأقنوم الثالث (الروح القدس) فله دور مهم هنا، فهو الذي يمكن المسيحيين أن يصلوا كما صلى يسوع ويؤسس فيهم نفس العلاقة الحميمة مع الله التي كانت ليسوع المسيح. " إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف، بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ: " يا آبا الآب". (رومية 8: 15).
لقد أصبحت العلاقة الحميمة التي ليسوع مع الآب متاحة لكل من يتصالح مع الله بالإيمان بالمسيح وذلك بواسطة عمل الروح القدس في ذلك المؤمن. وكما كان يسوع ابناً حميماً لله، كذلك يكون المؤمنون به وكما أقام الله يسوع من الأموات، سوف يقيم المؤمنين به.
عندما نوجه للعهد الجديد ذلك السؤال: " ما هي علاقة يسوع بإله إسرائيل؟" سوف نحصل على عدة إجابات.
أولاً: بعض الفقرات تشير بوضوح إلى علاقة تبني (إعمال 2: 36) "الله جعل يسوع هذا، الذي صلبتموه أنتم، رباً ومسيحاً." وفي ا لقرون الأولى ظهر الأبونيين الذين كانوا يؤمنون أن يسوع كان إنساناً عادياً وقام الله بتبنيه من خلال المعمودية (عندما اعتمد على يد يوحنا المعمدان) (لوقا3: 22).
ثانياً: هناك فقرات أخرى تشير إلى أن يسوع وإله إسرائيل هما شخصية واحدة. عندما يقول يسوع: " أنا والآب واحد." (يوحنا 10: 30). وهذا جعل البعض يؤمنون بأن الله له "حالات" يظهر بها. في البداية ظهر بصورة الآب، ثم بصورة الابن وأخيراً في صورة الروح القدس.
ثالثاً: فقرات أخرى تفرق بوضوح بينهم بحيث أن يسوع يجب أن يصلي للآب (مت 6: 9) لأن الآب أعظم من الابن.
رابعاً: نجد بعض الفقرات تشير إلى أن المسيح منبثق أو أنه امتداد للآب، فيرون أن المسيح ملاك الرب (رؤيا 12: 7) أو روح الرب (رومية 1: 3-5) أو كلمته "اللوجوس" (يوحنا 1: 1- 14)، أو ابن الله (مت 27: 54 و يوحنا 1: 14)
تلخيصاً نجد أن فقرات العهد الجديد تقدم العلاقة بين يسوع والآب في 4 صور:
o التبني
o الهوية الواحدة (حالات مختلفة وهوية واحدة)
o التفرقة التامة
o الانبثاق أو الامتداد
في أي الاتجاهات نتحرك؟
خلال القرون الأربعة الأولى للمسيحية، ذهب التأمل اللاهوتي في كثير من الاتجاهات، حتى تشكلت عقيدة الثالوث القويمة. من بين الافتراضات التي اقترحت ثم رفضت، افتراضان هامان هما الحاليّة أو تسلسل السلطة
بحسب الحالية، الله أبدي وواحد بشكل مطلق، لكنه يتعامل مع البشر في ثلاث حالات متتالية: الآب، ثم الابن، ثم الروح القدس، بحيث لا يمكن لأي واحد منهم بمفرده أن يكون هو الله بالكامل. وكان الذي ينادي بذلك هو سابيليوس في القرن الثالث. أما بالنسبة لنظرية التسلسل وهي اعتبار أن الرأس الإلهي هو الآب والذي منه ينبثق الابن والروح القدس ينبثق من الابن أو من الآب والابن معاً. بهذه الطريقة تصبح الشخصية الأولى هي المتحكمة.
ا
لم يكن صعباً على اللاهوتيين في ذلك الوقت نسب الألوهة المطلقة للآب، لكن كان السؤال هو هل يضعوا الروح القدس والابن على نفس الدرجة. الأمر كان متأثراً بالثقافة الإغريقية التي كانت دائماً تفترض هوة كبيرة بين الخالق والمخلوق. بين الإلهي والإنساني، بين المتسامي والمتنازل. بين المطلق، وبين العلاقاتي
بالنسبة للفكر الغنوسي، كان هناك تصور بوجود "كائنات إلهية" وسيطة أهمها هو اللوجوس. قبل مجمع نيقية، كان الميل هو لاعتبار أن المسيح هذا هو اللوجوس، أي همزة الوصل بين الإلهي والإنساني. كان هناك ميل لدى اللاهوتيين القبل نيقيين أن يضعوا المسيح (بصفته اللوجوس) في ذلك المكان الوسيط وكأنه "خيط الطائرة الورقية" الذي يصل الإلهي بالإنساني. لكن كان السؤال دائماً أين يضعونه على هذا "الخيط" إن وضعوه منخفضاً أكثر من اللازم، فقد قدرته الخلاصية، وإن وضعوه أعلى من اللازم فربما هذا يضر بعقيدة التوحيد.
وضع آريوس السكندري المسيح في النهاية السفلى للخيط، وهكذا اعتبره خاضعاً لله ومخلوقاً منه قبل كل الأزمنة وقبل الخليقة، ثم به خلق كل العالمين. أي أن المسيح أعلى من كل الخليقة، ولكنه مخلوق من الله.
هذا الفكر الأريوسي، كما هو واضح كان متأثراً بعاملين. الأول الرغبة في التوحيد المطلق، والآخر هو الفكر الغنوسي الذي يفترض أن الله منزه عن خلق الكون المادّي، فقد كان الفكر الغنوسي يفترض أن الله يخلق كائنات أسمى، ثم هذه الكائنات بالتدريج تخلق كائنات أقل سمواً حتى نصل إلى الخليقة المادّية.
لكن أثناسيوس تحدّى آريوس وهذا مهد الطريق إلى مجمع نيقية الشهير في 324 م ثم القسطنطينية 381 م والذي فيه تم إقرار الفكر المسيحي المستمر حتى الآن هو أن الآب والابن والروح القدس واحد في الجوهر (وهذه هي عقيدة الثالوث).
هذا يعني أن الآب هو الله بالكامل، والابن هو الله بالكامل والروح القدس هو الله بالكامل. والثلاثة هم جوهر واحد هو الله الواحد. هنا احتج أثناسيوس على فكرة أن الله يجب أن يكون بسيطاً أو أن وحدانيته بسيطة. وشدد على أن الله وحدانيته غنية، أي جامعة مانعة. كان آريوس يقول أن الآب خلق الابن منذا الأزل، وقبل الوقت. ويردد شعاراً بين العامة يقول: " لقد كان عندما لم يكن" ــ بمعنى أن الله كان عندما لم يكن المسيح.
فاحتج عليه أثناسيوس، متهماً إياه أنه يخدع العامة ذوي العقول البسيطة. فإن كان آريوس يقول أن الآب خلق الابن قبل الأزل، وقبل الوقت. فمعنى هذا هو أنه لم يكن هناك "وقت" كان فيه الآب وليس فيه الابن. أي أن الآب يرسل الابن أزلياً أبدياً وهذا معناه أن الآب والابن هم حالتان أزليتان أبديتان لله. وأيضاً يرسل الروح القدس أزلياً وأبدياً. أي أن الآب والابن والروح القدس حالات أزلية أبدية في جوهر الله الواحد. هذا صعب على عقولنا البشرية المرتبطة بالزمن فهمه. أيضاً ن فكر الثالوث ضروري لفهم وحدانية الله الجامعة المانعة وكونه غير متغير. بدون مفهوم الثالوث، الله يصبح متغير وقابل للتغير. فإن قلنا أن الله يُحِب، فنحن نتساءل، من كان يحب قبل أن يخلق الإنسان مثلاً. هل تغير الله عندما خلق الإنسان؟ لا.. فالله منذ الأزل إلى الأبد يحب. يحب من قبل أن يخلق الإنسان؟ كان يحب نفسه! كل "أقنوم" من الثالوث يحب الاثنين الآخرين. والحب يستلزم الشخصانية. هذه "الأقانيم" أو "الشخصيات" ليست مجرد حالات. إنها شخصيات حقيقية في جوهر الله الواحد. ا الله "غني عن العالمين" ففي الجوهر الإلهي هناك "علاقة" الله لا يحتاج للإنسان لكي يكون علائقياً كطبيعة جوهرية فيه in وإن كانت "الأبوة" جوهرية في الله هكذا فالله لا يمكن أن يكون الله بدون الابن. وكذا إن كانت "الحياة المستمرة" جوهرية في الله هكذا فالله لا يمكن أن يكون الله بدون الروح القدس تماماً كما لا يمكن أن تكون النار ناراً بدون نور وبدون حرارة.
هذا معناه بالنسبة لنا مجيد فالأبوة ليست مجرد طريقة لتعامل الله معنا يمكن أن تتغير إذا "أغضبناه" إنها جوهره الذي لا يمكن أن يتغير. وإذا أعطانا الله "عطية الروح القدس" فهو يعطينا عطية الحياة الأبدية!
ولكن إن كان الله هكذا "غنيّ عن العالمين"، فما مدى حقيقية علاقته بنا؟ وما مدى حقيقية التجسد الإلهي. معضلة الثالوث ليس مجرد معضلة فلسفية أو حسابية عن كيف يكون الواحد ثلاثة والثلاثة واحد ولا هي معضلة التوحيد والشرك. هي في واقع الأمر معضلة التنزيه والعلاقة. كيف يكون الله منزهاً ويظل إلهنا الذي يمكننا إقامة علاقة معه. هل "ذِكر الله" مجرد "تعويذة" أم أن الله شخص حقيقي يمكن إقامة علاقة معه؟ هل طاعة الله مجرد طاعة لقانون جامد أم طاعة محبة لإله نريد أن نعيش معه إلى الأبد؟ هل "الجنة" مجرد حجرة جميلة في فندق "خمسة نجوم" أنعم بها علينا هذا الثري لنأكل ونشرب ونتمتع ولا نرى وجهه أبداً. أم هي مستوى أعلى من العلاقة معه، أعلى من المادّي والمحسوس؟ هذا النوع من الدين العلاقاتي هو الذي يؤثر في الأخلاق لأنها "عِشرة" والعِشرة تغيّر الإنسان (القابل للتغيير) أما الدين الذي هو مجرد أفعال نفعلها لإرضاء الله دون علاقة معه فلا تغيرنا ولعل هذا يفسّر المعضلة الكبيرة التي نراها حولنا الآن من تزايد التدين وتناقص الأخلاق!
لذلك فإن هذا الإله الغني عن العالمين، الذي لا يحتاج لأحد لكي يكون حتى في علاقة، اختار أن يتنازل. تنازل عندما خلق وتنازل عندما تواصل بالكلمة (عقله) وتنازل أكثر وأكثر عندما ألقى كلمته في رحم العذراء وتجسد عقل الله بشراً سوياً خطا بقدمين مثل قدمينا على نفس أديم الأرض في الزمان والمكان ـ هو يسوع المسيح. لذلك فإن يسوع المسيح هو قمة تواصل الله مع الإنسان لذلك فهو أكثر الطرق وصولاً إلى الله لذلك نجده يقول " أنا هو الطريق والحق والحياة".